لماذا يدمر الغرب التجارب الديموقراطية العربية؟!

بناء المستقبل يرتبط بدراسة التاريخ لبناء وعي الأمة بأنها تستطيع أن تحقق التقدم، وتقدم إبداعها في مجالات متعددة من أهمها الديموقراطية، ولكي أبرهن لك على أن الأمة يمكن أن تنتج نموذجا ديموقراطيا جديدا، سأقدم لك شهادة تثير الخيال، وتفتح المجال لمناقشة حرة للكثير من المشكلات، من أهمها: هل يمكن تحقيق التحالف بين التيارين الليبرالي والإسلامي لتحقيق الديموقراطية؟!
وهذه شهادة إليزابيث ف. تومبسون، المؤرخة المتخصصة في تاريخ الشرق الأوسط، في كتابها: «كيف سرق الغرب الديموقراطية في العالم العربي».
تجربة تثير الخيال!
تقدم تومبسون دراسة علمية لتجربة عربية مهمة لبناء نموذج ديموقراطي عربي في سوريا عام 1920، حيث قام المؤتمر السوري ببناء نظام دستوري ديموقراطي يضمن الحقوق المتساوية للمواطنين، بمن فيهم غير المسلمين، لكن القوى الغربية نكثت الوعود، وقضت على هذه المحاولة الديمقراطية باستيلاء فرنسا على سوريا في يوليو 1920 وتجزئة المنطقة.
الديموقراطية ترتبط بالاستقلال
قام المؤتمر السوري بإعلان استقلال سورية، لكن السلطات الفرنسية والبريطانية قامت بإجهاض المشروع السوري المستقل عبر الاحتلال الفرنسي. بذلك يفتح الكتاب المجال لإعادة التفكير في أسباب غياب الديمقراطية الحديثة في الشرق، ويقدم دليلا تاريخيا على أن محاولات التأسيس الدستوري في العالم العربي لها جذور عميقة، ولم تكن استيرادا لقيم غربية، وأن التدخل الخارجي دمّر فرص بناء مؤسسات ديمقراطية عربية.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4من “أوفوا بالعهد” إلى أوسلو.. إسرائيل نموذجًا لنقض المواثيق
- list 2 of 4عندما نفقد الشغف بالانتخابات رغم أنها قمة السياسة!
- list 3 of 4ثورة «المتصفحات الذكية» للإنترنت.. والاحتلال الرقمي للعقول؟
- list 4 of 4هل أصبحت عودة السوريين من ألمانيا حتمية؟
تقول إليزابيث تومبسون إن العرب كانوا من أوائل الشعوب في العالم غير الأوروبي التي حاولت بناء نظام نيابي تعددي يجمع بين القيم الليبرالية الحديثة والمبادئ الإسلامية، وإن هذا المشروع سقط بسبب تدخل غربي مباشر دمّر التجربة.
دراسة التجربة لبناء الوعي العربي
ترى تومبسون أن فهم تجربة 1920 ضروري لإعادة بناء الوعي العربي المعاصر، فالعرب لم يرفضوا الديمقراطية، بل سُرقت منهم على يد من ادعوا نشرها، وتؤكد أن إعادة اكتشاف تلك اللحظة هي خطوة نحو تحرير الوعي العربي، وأنه يجب إحياء تلك الذكرى لتحقيق العدالة التاريخية.
تعود جذور القصة إلى الحرب العالمية الأولى، عندما تعاون العرب مع الحلفاء ضد الدولة العثمانية، بوعد واضح بمنحهم الاستقلال والسيادة الوطنية بعد الحرب، لكن القوى الغربية -بريطانيا وفرنسا- وقّعت اتفاقية سايكس-بيكو التي قسمت الشرق العربي إلى مناطق نفوذ، بينما وعدت بريطانيا اليهود بإقامة وطن قومي في فلسطين.
مثّل المؤتمر مناطق سوريا الطبيعية جميعها (سوريا، فلسطين، لبنان، شرق الأردن)، وكان برلمانا منتخبا، ووضع دستورا متقدما جمع بين المبادئ الليبرالية والقيم الإسلامية، وأعلن المؤتمر أن سورية دولة مستقلة استقلالا تاما لا تقبل التجزئة، ولا يحق لأي قوة أجنبية أن تنتدب عليها، وأكد الدستور سيادة الأمة، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وفصل السلطات، وضمان حرية الصحافة والاجتماع.
لكن القوى الغربية لا تقبل دولة عربية موحدة ديمقراطية، لأن ذلك كان يعني فقدان النفوذ الاقتصادي والسياسي في المنطقة.
فرنسا وإسقاط الحلم الديموقراطي
بينما كانت باريس تدعي الدفاع عن قيم الجمهورية والحرية، كانت تمارس في الشرق سياسة استعمارية عنيفة تهدف إلى تقسيم سوريا وإخضاعها بالقوة. وتروي تومبسون مأساة معركة ميسلون (24 يوليو 1920)، حين قررت فرنسا إخضاع دمشق بالقوة، فقاد وزير الحربية يوسف العظمة الجيش السوري لمواجهة جيش فرنسي مجهز بالدبابات والمدافع الثقيلة، فاستشهد العظمة ومعه نحو 400 من رجاله.
ودخل الجنرال غورو دمشق وأصدر بيانا ألغى فيه الدستور، وفرض الحكم العسكري الفرنسي، وبذلك دمرت فرنسا تجربة ديموقراطية عربية، وأسست قرن الانتداب الطويل، الذي أنتج أنظمة تابعة للغرب.
التحالف الليبرالي الإسلامي
أوضحت التجربة إمكانية تحقيق التحالف الليبرالي الإسلامي، حيث قامت شخصيات إسلامية بالتوفيق بين الشريعة والمواطنة والدستور، وشكّل التحالف بين العلماء والمثقفين المدنيين بذرة حقيقية لمشروع إسلامي ليبرالي عربي.
وكان هذا التحالف يقوم على أن الإسلام دين الشورى، وأن الحرية ليست مستوردة بل متجذّرة في مفهوم العدل والمصلحة العامة. وشارك العلماء الإسلاميون في الدفاع عن الدستور، وتحالفوا مع مثقفين مسيحيين مثل فارس الخوري، الذي أصبح رمزا للوحدة الوطنية. وترى تومبسون أن هذا الدستور جسّد لحظة فريدة من التحالف الليبرالي الإسلامي، الذي جمع بين علماء الدين والمثقفين المدنيين، وكان بمثابة ولادة ديمقراطية حقيقية في العالم العربي.
الخداع البريطاني للعرب!
بينما كانت لندن تدعم فيصل ظاهريا، كانت تتواطأ مع فرنسا لتقويض استقلاله، حفاظا على مصالحها في العراق وفلسطين. وتشير تومبسون إلى أن الموقف البريطاني تجاه الديمقراطية العربية كان براغماتيا، فهي تشجع المشاركة الشعبية ما دامت لا تهدد المصالح الاستعمارية، وتمنعها حين تنادي بالسيادة الوطنية الكاملة. وترى أن أصل المأزق العربي المعاصر لا يكمن في الثقافة أو الدين، بل في الإرث الاستعماري الذي حرم العرب من ممارسة ديمقراطيتهم.
نقد السردية الاستشراقية
وتنتقد تومبسون الرواية الغربية التي تقول إن العرب لم يكونوا مستعدين للديمقراطية، وترى أنها سردية استشراقية مزيفة تخدم تبرير الاحتلال. وتؤكد أن النخب السورية عام 1920 كانت أكثر تقدما من بعض الدول الأوروبية في وعيها بحقوق المرأة والمواطنة والمساواة. وتشير إلى أن الغرب، بدلا من دعم هذه التجربة، فرض نموذج الوصاية العنصرية تحت شعار مساعدة الشعوب المتأخرة على النضج السياسي.
كما تنتقد تومبسون بقوة الخطاب الأكاديمي الغربي الذي يحمل العرب مسؤولية فشل الديمقراطية. لذلك تتساءل تومبسون: كيف كان سيكون شكل الشرق الأوسط لو تُركت التجربة السورية لتنضج؟! وتجيب بأنه ربما كنا سنشهد شرقا أوسط أكثر حرية وعدلا وتوازنا بدلا من قرن من الاستبداد والحروب والانقلابات.
وتقول: لم يرفض العرب الديمقراطية، بل سُرقت منهم وهي في طور التكوين. وترى أن استعادة هذه اللحظة التاريخية ضرورية اليوم لإعادة بناء الوعي السياسي العربي على أساس تاريخي حقيقي، لا على أساس الصورة التي رسمها الاستعمار.
