أكتوبر شهر نحبّه ويحبّنا!

تتواكب ذكرى انطلاق طوفان الأقصى، هذا الحدث التاريخي الذي أحدث انقلابًا عالميًّا تجاه قضية فلسطين، وأعادها إلى الواجهة العالمية والدولية عبر الملايين من شعوب العالم والهيئات الأممية والدولية، لتصبح كلمة فلسطين حرةً على كل لسان وبكل اللغات. يتواكب السابع من أكتوبر/تشرين الأول هذا العام مع توقيع اتفاق إيقاف الحرب على غزة، بعدما عجزت آلة القتل الإسرائيلية المدعومة أمريكيًّا وأوروبيًّا عن تحقيق أي أهداف وضعها رئيس الوزراء الإسرائيلي. كما يتوافق السابع من أكتوبر مع ذكرى انتصار السادس من أكتوبر 1973، هذا اليوم الذي عبر فيه المقاتل المصري قناة السويس وحطم خط بارليف، ذلك المانع الذي تصور الكيان الصهيوني أنه سيُعجز المصريين عن العبور والحرب، مثله مثل كل الخطوط التي تحطمت فجر السابع من أكتوبر 2023، والتي تصور الكيان أيضًا بغروره وغطرسته أنه سيمنع المقاتلين أبناء غزة الأبطال من العبور إلى الأرض المحتلة أو تهديد الكيان، وكلاهما تحطم. وما بين خط بارليف والخطوط الشائكة والمانعة، خمسون عامًا هي أعوام صار احتفالنا اثنين، وأيام أكتوبر ازدانت بيوم آخر. وكان العاشر من أكتوبر 2025 هو يوم الفرحة والانتصار لصمود الشعب الفلسطيني في غزة. فبقدر بطولات المقاومين والمقاتلين والأبطال من الأحياء والشهداء، وصمود كل أبناء غزة في كل موقع، وتواكبه مع إيمان وعقيدة بالحق، كان الانتصار.
أكتوبر يجدد الذاكرة
أكتوبر هو شهر أحبُّه وأُجلُّه منذ سنوات بعيدة، فضلًا عن أنه يوم انتصارنا العظيم، وأغانٍ وأعمال أكتوبر الدرامية التي ما زلت أتذكرها منذ طفولتي.
كنت طفلًا في السابعة من عمري، وظل موسم أكتوبر أجمل أيامي طفولتي وصباي. لكن أكتوبر اختلف بدخولي الجامعة، وكان أول أيامي الجامعية في كلية الإعلام في 5 أكتوبر 1985، ومن المصادفات أيضًا أنه كان انطلاق القناة الثالثة التي قضيت فيها 24 عامًا مخرجًا برامجيًّا، وقدَّمت من خلالها الكثير من الأعمال والبرامج عن حرب أكتوبر وعن فلسطين وأيامها وأبطالها، شعرائها وكتّابها. كان أول أكتوبر لي في القناة الثالثة بعد ثلاثة أشهر من التحاقي بها في عام 1988؛ كنت لا أزال طالبًا في العام الدراسي الثالث، وكان التلفزيون المصري يبدأ دورته البرامجية الثالثة في العام في هذا الشهر، وكان لأكتوبر والدورة البرامجية مذاق خاص كمذاق دورة رمضان البرامجية. كان موسمًا لتقديم أعمال عن حرب الانتصار والنصر، وكانت القناة الثالثة، بشبابها الواعد في تلك الأيام، تقدّم أفكارًا مختلفة عن القناتين الرئيستين الأولى والثانية، أفكارًا شبابية يقدمها نجما الإخراج في ذلك الوقت، عاصم بكري وأسامة طه، وكانت السمة الغالبة لهما الإطار الدرامي.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4هل أصبحت عودة السوريين من ألمانيا حتمية؟
- list 2 of 4مصر وفلسطين بين احتلالين ومقاومتين
- list 3 of 4تفاكر.. مصطفى المرابط يناقش كتاب “الفيلسوف ابن ساعته”
- list 4 of 4الوطني والأيديولوجي في الديمقراطيات العربية
أما البرنامج الرئيس للقناة الثالثة، فكان تقدمه القناة الثالثة بالاشتراك مع الشؤون المعنوية باسم (شكرًا إمضاء مصر)، وكان يخرجه المدير العام للبرامج الإعلامي الكبير مدحت زكي، ويقدمه كل مذيعي القناة الثالثة الشباب في ذلك الوقت. وساعد الإذاعي وصاحب البصمة الفكرية والإعلامية على جيل كامل من المخرجين إدارة المنوعات والخدمات في القناة الثالثة. وقدَّمت هذا البرنامج على مدى أكثر من سبع سنوات، وكان يستضيف قادة القوات المسلحة الذين شاركوا في الحرب. وكان من نصيبي أن أكون في عام 1988 أحد الذين ساعدوا في إخراج هذا البرنامج، وكانت مهمتي فقط حمل شرائط البرنامج أثناء المونتاج، لكني كنت مبتهجًا أن أكون ضمن فريق العمل مع زميلي وأخي الإعلامي الكبير أيمن جاب الله، وكانت تلك أولى خطواتنا في التلفزيون والقناة الثالثة.
سبع سنوات على الجبهة
استهوتني فكرة الجنود المصريين في تلك الفترة والأبطال المنسيين في حرب أكتوبر، خاصة من خاضوا حرب الاستنزاف، ومن حوصروا في الثغرة، معادل الصبر والصمود في الفترتين ملهم ومعجز. فمن يضع سبع سنوات أو أكثر من عمره بين الرمال والصخور، ويشعر بمرارة الهزيمة والانكسار في مقابل أن يبدأ حياته ويعيش مستقبله، لا بد له من إيمان عميق وقدرة عظيمة. كان أولئك الذين التحقوا بالقوات المسلحة المصرية منذ عام 1965 وما بعدها حتى الانتصار في أكتوبر: دفعات من أبناء الجامعات والفلاحين والعمال والطلبة في المدارس الفنية، كان لهم نصيب من الصبر والجهد والصمود، ونصيب من الانتصار والفرحة والفخر الأبدي لهم ولأبنائهم الذين ينشرون صورهم الآن على صفحات التواصل الاجتماعي. أما أبطال الحصار فبطولات صبرهم وصمودهم شاهدناها على مدار العامين الماضيين في حصار غزة. يحكي أحدهم أن أربعة جنود كانوا يتقاسمون رغيفًا واحدًا فقط من الخبز، ويحكي الآخر عن العطش وكيف كانوا يستخدمون حجارة الصحراء (الزلط) في الارتواء من العطش.
كان أول عام لي مخرجًا تلفزيونيًّا 1994، وفي أكتوبر من العام نفسه قدَّمت أول عمل تلفزيوني عن أكتوبر بعنوان “سبع سنوات على الجبهة”. اخترت أن أبعد عن ما يقدمه برنامج “شكرًا إمضاء مصر” للمعلم الكبير مدحت زكي، فبينما كان يمضي تلاميذه في الاعتماد على القادة من ضباط الحرب، اخترت الجنود (العساكر) ملح الأرض وملح المعارك الذين يتوارون حين تُرفع رايات النصر، ولا يجدون من يرفع لهم القبعات، ولا مكانًا لهم في الاحتفالات الكبرى. وبقدر عدد السنوات اخترت أيامًا لا ينساها هؤلاء الذين صمدوا في الخنادق، ورأينا بعض ملامحهم في أعمال درامية مثل “أغنية على الممر”، و”العمر لحظة”، وأعمال وثائقية مثل “جيوش الشمس” لشادي عبد السلام. والواقع أن السينما الوثائقية قدَّمت أعمالًا متميزة عن أكتوبر، قدَّمها جيل السبعينيات والثمانينيات في السينما المصرية.
تنوع الجنود الذين استضفتهم في السهرة الوثائقية “سبع سنوات على الجبهة” ما بين الجنود العاديين أبطال المشاة أبناء العمال والفلاحين، وخريجي الجامعات المصرية في سنوات ما بعد يونيو/حزيران 1976، فقد كانت إعادة بناء القوات المسلحة المصرية وتنوّع جيوشها وأسلحتها نوعية جديدة من الجنود، وكان هؤلاء خريجي الجامعة المتعلمين. ومن الجنود الذين استضفتهم في السهرة، وكانوا مفاجأة أنهم أمضوا سبع سنوات على الجبهة، الشاعر الكبير حسن طلب، والشاعر أحمد سويلم، والمخرج التلفزيوني أسامة الكرداوي، والفنان محمود الجندي، والفنان ومصمم استعراضات فرقة رضا حسن السبكي.
صاحبتنا أغاني الحرب التي قدَّمها الفنانون المصريون، على رأسهم محمد عبد الوهاب الذي كانت شارة البداية أغنيته مع الأخوين رحباني “حي على الفلاح”، وأيضًا عبد الحليم حافظ ومجموعة أغانٍ مع الأبنودي وبليغ حمدي بعد يونيو. كانت هناك أيضًا أنغام مثل “إنذار”، “أضرب”، “ابنك يقول لك يا بطل”، “عدى النهار”، وغيرها، وكانت أشعار فؤاد حداد وأحمد عبد المعطي حجازي وأحمد سويلم.
يوميًّا مقاتل
أصبح أكتوبر موسمي المفضل لتقديم أعمال خاصة عن الحرب، واستمر ذلك ثلاث سنوات، وكان 1998 عام التخفيف من أعمال أكتوبر عبر مديري القنوات الذين كان من الصعوبة التعامل معهم في تقديم أعمال خاصة تختلف عن الحالة العامة. وفي أكتوبر 1996، قدَّمت حلقات تلفزيونية كان منهج “سبع سنوات على الجبهة” نفسه حاضرًا فيها، وكان السؤال الذي طرحته: بعد 23 عامًا أين الجنود أبطال أكتوبر؟ هل يعرف المحيطون بهم أن هؤلاء هم من حققوا الانتصار؟ وكان عليَّ أن أبحث في قرى ومدن نطاق تغطية القناة الثالثة عن هؤلاء الجنود وأقدمهم إلى أهالي القرى والمدن. اخترت أن أعمل لهم فرحة أو “زفة مصرية” في قراهم ومدنهم، وفي الوقت ذاته، أعرّف الأجيال الجديدة في هذه الأماكن عن أبطالهم من الجنود الذين ثابروا وصبروا سنوات من الهزيمة إلى الانتصار.
كان العمل تجربة فريدة، ليس فقط في تقديم هؤلاء الأبطال بل في الكتابة التلفزيونية وكتابة أغنيات جديدة يقدمها شعراء وملحنون مصريون جُدد في ذلك الوقت. اخترنا للمقدمة أغنية “حي على بلدنا” للشاعر الكبير فؤاد حداد، وأغاني داخلية من أشعاره مع الشعراء الشباب، وكان الرفيقان الملحنان محمد الشاذلي وأكرم مراد هما المغنّيين والملحنَين. أما الكتابة فكانت الجزء الأول دراميًّا كتبته، والجزء الأوسط حديث المقاتل المصري، وكان أجمل ما قيل لي عقب إذاعة الحلقة الأولى من البرنامج حينما فاجأني عامل في ماسبيرو قائلًا “أبكيتني يا أستاذ”، قالها بالعامية المصرية، فبكيت أنا في طرقات ماسبيرو.
حكايات بهية
العمل الثالث الذي قدَّمته كان التلفزيوني “حكايات بهية” في عام 1997. فكرته تقوم على عشرة أحداث مصرية، تبدأ من الثورة العرابية 1882، وتنتهي في أكتوبر 1973، وهي مجموعة حلقات درامية غنائية كتبها النجم التلفزيوني الصاعد في ذلك الوقت صبري فواز. شاركني الرحلة كالعادة ديوان كامل لفؤاد حداد، هو “في نور الخيال وصنع الأجيال” في تاريخ القاهرة، ولكن في “حكايات بهية” اخترنا عشرة أحداث وشخصيات، لنقول إن النضال من أجل النصر والتحرير لا يتوقف، ولن يتوقف في محطة معيَّنة حتى يكتمل النصر ويكتمل التحرير. فهذه جولة من جولات سابقة، ومرحلة من مراحل تكتمل حين يكون الطوفان الأكبر طوفان تحرير الأرض كاملة في مصر وفي فلسطين وكل الأرض العربية، حينها نبدأ مرحلة جديدة في بناء الأمة. أليس لنا الحق أن نقول “إن أكتوبر شهر نحبّه ويحبّنا”؟
