في ذكرى الطوفان.. حديث الهزيمة والنصر!

رفعت بلدية سان دوني بالعاصمة الفرنسية باريس العلم الفلسطيني
رفعت بلدية سان دوني بالعاصمة الفرنسية باريس العلم الفلسطيني في مشهد وُصف بالتاريخي (الفرنسية)

بعد أن أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطة سلام جديدة للشرق الأوسط -حسب رؤيته- جاءت موافقة حركة حماس عليها لتؤكد أن المقاومة تسعى للسلام، رغم استمرار الحرب الشاملة على قطاع غزة التي تجاوزت العامين في حرب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين.

وقد تعاملت حماس مع خطة ترامب بمرونة سياسية واضحة، إذ أعلنت موافقتها على الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء، وتسليم جثث الأموات، كما أبدت استعدادها للانخراط فورا في مفاوضات عبر الوسطاء لبحث تفاصيل الخطة. وبهذه الخطوة الذكية، ألقت حماس الكرة في ملعب الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو، لتكشف للعالم أن المعوق الحقيقي للسلام هو الاحتلال، وليس المقاومة.

طوفان الأقصى

إن ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في عملية “طوفان الأقصى” لم يكن عملا إرهابيا -كما تدعي إسرائيل- بل كان مقاومة مشروعة ضد احتلال عنصري دام أكثر من سبعة عقود. لقد صمدت حماس وأفراد المقاومة عامين في مواجهة آلة حرب ضخمة، مما يؤكد شرعية قضيتها وقوة إرادتها.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

إن الانتصارات الحقيقية لا تُقاس بعدد القتلى في عمليات التحرر الوطني، بل بالتأثير في المجتمع الدولي، وما تُحدثه من خسائر استراتيجية للعدو. فقد تسببت المقاومة في خسائر اقتصادية وسياسية وإعلامية كبيرة لإسرائيل، إذ تراجعت صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 248%، كما تسببت في عزلة دولية غير مسبوقة للكيان الصهيوني.

وحتى الآن، وفي ظل حرب الإبادة، وصل عدد الشهداء إلى 67 ألفا و682 شهيدا، بينهم أكثر من 25 ألف طفل، و13 ألف فتاة وامرأة، بينما وصل عدد المصابين إلى أكثر من 170 ألف جريح، وفقا لإحصاءات وزارة الصحة في غزة. وفي المقابل، أعلنت إسرائيل مقتل 1152 عسكريا وإصابة آلاف الجنود منذ بداية الحرب، وهذا غير الأعداد غير المعلنة، فضلا عن نحو 31 ألف جندي أصيبوا بأمراض الجنون، والاضطرابات العقلية والنفسية.

لكن في المقابل، بدأ المجتمع الأمريكي والغربي يرى الحقيقة بلا تجميل، ويتخلص من سحر جماعات الضغط الصهيونية، فقد أدرك الرأي العام الأمريكي أن نتنياهو مجرد قاتل ومجرم حرب. ولا شك أن هذا الانقلاب في المزاج الأمريكي والغربي حطم آخر سد كان يحتمي به نتنياهو وهو يرتكب جرائم الإبادة والتدمير في غزة.

زيف الرواية الإسرائيلية

إن إسرائيل -اليوم- تقف أمام مرآة العالم، لا ترى فيها سوى وجهها الحقيقي الذي طالما حاولت إخفاءه خلف دعاوى القوة والديمقراطية. إنها مرآة تكشف زيف الرواية، وتعرّي الكيان الذي بُني على الاحتلال والدم، وتضع قادته أمام محكمة الضمير العالمي بعدما تحولوا إلى رموز للجنون والعزلة والانهيار.

لقد انكشفت الحقيقة كاملة: دولة فقدت بوصلتها، لها زعيم تائه في أوهام العظمة، لا يسمع حتى أصوات شعبه الذي يحاصر منزله بالمظاهرات الغاضبة، مطالبا إياه بإطفاء النيران التي أشعلها على مدار عامين في بلاده، والتوصل إلى اتفاق ينهي الحرب.

لقد كانت عملية “طوفان الأقصى” لحظة مفصلية في تاريخ الصراع، غيّرت المعادلة، وكسرت هيبة جيش الاحتلال المزعومة، وأثبتت أن القوة لا تعني القدرة على الحسم، وأن الشعوب الحرة قادرة على مفاجأة المحتلين. فلم تهزم العملية إسرائيل في الميدان العسكري فقط، بل هزمتها أيضا في المجال الاقتصادي، إذ تجاوزت الديون 500 مليار شيكل، وهربت الاستثمارات الأجنبية بوتيرة غير مسبوقة.

أما قطاع التكنولوجيا، الذي كان فخر الاقتصاد الإسرائيلي، فقد انكمش بنسبة 12% منذ اندلاع الحرب، وتراجعت قيمة الشيكل أمام الدولار إلى أدنى مستوى منذ عشر سنوات، في حين انخفضت السياحة بنسبة 80%، وتوقفت مشروعات البنية التحتية، وتعيش إسرائيل -الآن- أسوأ أزمة مالية في تاريخها، إذ تجاوزت خسائر البورصة 30 مليار دولار، وهربت استثمارات أجنبية مباشرة بأكثر من 12 مليار دولار.

وقد شهدت الساحة الدولية موجة اعترافات بدولة فلسطين تنهال كالسيل، معلنة سقوط المشروع الصهيوني أخلاقيا وسياسيا. والمفارقة التاريخية الكبرى أن إنجلترا وفرنسا، اللتين شهدتا ميلاد وعد بلفور ووقعتا اتفاقية سايكس بيكو، هما -اليوم- في طليعة الدول التي أعلنت اعترافها بدولة فلسطين، في مشهد يحمل دلالات عميقة.

إسرائيل دولة منبوذة

ومن نتائج “طوفان الأقصى” إقرار الإعلام العبري نفسه بأن ثمن الحرب على غزة بات باهظا جدا، وأن إسرائيل أصبحت دولة منبوذة ووحيدة وممزقة داخليا. وقد هاجم نتنياهو الإعلام العبري، واتهمه بالتقصير في الحرب الدعائية، وهو ما يؤكد نجاح إعلام المقاومة رغم بساطته، وفشل إعلام الاحتلال رغم الأموال والإمكانات.

وكان المشهد على منصة الأمم المتحدة، عندما وقف الرئيس التشيلي غابرييل بوريك، ليقول “لا أريد أن يُقتل نتنياهو بصاروخ، بل أريد أن أراه هو وكل المسؤولين عن الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية”، ثم جاء المشهد المهين، حيث انسحب معظم قادة دول العالم من القاعة أثناء إلقاء نتنياهو كلمته.

لقد انهار السد، وبدأت موجة الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية تجتاح المشهد السياسي، ولم يعد الاعتراف مقصورا على دول هامشية، بل انضمت دول أوروبية وأمريكية لاتينية وآسيوية في لحظة تاريخية تعكس تغيرا عميقا في الموقف العالمي من القضية الفلسطينية.

نعم، من قلب غزة المحاصرة، انتصرت إرادة الشعب الفلسطيني، وهذه الصور التي لم تستطع إسرائيل إخفاءها رغم كل ما تملكه من أدوات دعائية، كانت كفيلة بأن تكشف زيف الاحتلال، وتفضحه على شاشات الضمير العالمي، فلقد جعلت الدول تتسابق إلى الاعتراف بحق دولة فلسطين في الحياة.

ولم تعد إسرائيل تلك الدولة التي تفرض روايتها على العالم، بل أصبحت في مواجهة مع الضمير العالمي، وفي عزلة سياسية، وانهيار اقتصادي، وحصار إعلامي، وانهيار مشروع التطبيع. كل ذلك ينذر بأن الأسطورة المزعومة قد انتهت، وأن مرحلة جديدة بدأت، يكون فيها الحق الفلسطيني هو العنوان، وغزة البوصلة، والعالم الحر هو السند.

لقد تحطمت مرآة الأكاذيب، وبات نتنياهو يرى وجهه الحقيقي؛ وجه زعيم يقود شعبه إلى الهاوية، وإلى سقوط لا قيام بعده. فحين يتكلم الضمير، تصمت البنادق، وتنتصر فلسطين.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان