الحياد في زمن الانكشاف.. عندما يصبح الصمت موقفا

التعبير عن الصمت في عصر التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة (الذكاء الاصطناعي)

 

“أسوأ المواقف ألا تتخذ موقفًا”، عبارة تُختصر بها مآسٍ إنسانية متكررة عبر التاريخ.
يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا (وفق ما يُنسب إليه):”الأسوأ ليس أن العالم يفتقر إلى الحرية، بل أن الناس قد نسوا حريتهم. وإن لم نستطع تغيير العالم، فلنغيّر حياتنا ونعيشها بحرية.” هكذا لخّص مأزقنا المعاصر، وخاصة أمام الصراعات.

في عالم يُعاد تشكيله تحت وقع الأزمات، حيث تنكشف التحالفات، وتُختبر القيم، لم يعُد الحياد الأخلاقي ترفًا نظريًا، بل أصبح سؤالًا حادًا عن جوهر الموقف في زمن تعذّر فيه الادّعاء بالبعد أو الجهل.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

ولطالما ارتبط مفهوم الحياد بفضائل مثل التروّي، والموضوعية، وعدم الانجرار للاستقطاب. وتحت شعار الحكمة، قد يُتخذ الحياد موقفًا، وأحيانًا أخرى قد يكون نوعًا من التواطؤ الذي لا لبس فيه.

في عالم السياسة المعاصر، هناك دول ومنظمات سعت للحفاظ على مسافة متساوية من الأطراف المتصارعة، تحت لافتة “الحياد الإيجابي” أو “الوساطة النزيهة”.
لكن الواقع كثيرًا ما أثبت هشاشة مثل هذه المواقف، بل وخطورتها في أحيان كثيرة.

في تسعينيات القرن الماضي، وأثناء حرب البوسنة والهرسك التي شهدت إبادة للمسلمين، ظلّت بعض العواصم الغربية متستّرة خلف الحياد رغم المجازر الموثقة، بل لم تتدخل إلا بعد سنوات، عندما أصبح الثمن الإنساني باهظًا جدًا.

وفي زمن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، تأخّر المجتمع الدولي كثيرًا في فرض إجراءات حاسمة، بذريعة احترام “السيادة الداخلية”، رغم أن الظلم حين يتجاوز عتبة الكرامة الإنسانية، يفقد السيادة معناها الأخلاقي.

الحياد في زمن الصورة المباشرة

لم يعد ممكنًا اليوم الادعاء بالحياد كما في السابق. ففي عصر التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة، باتت مشاهد القصف، والحصار، وانهيار المستشفيات تُبث لحظة بلحظة. لم تعُد الكاميرا في يد طرف واحد، ولا المعلومة حكرًا على وكالات رسمية.

وبالتالي، لم يعُد الحياد أمام هذا الانكشاف يعني التوازن، بل كثيرًا ما يُقرأ بأنه انسحاب أخلاقي، أو تواطؤ صامت مع الأقوى.

وقد عبّر عن ذلك المفكر الفرنسي “ألبير كامو”، الحائز على جائزة نوبل سنة 1957، في كتابه تأملات حول المقصلة، حين قال:
“عندما يُساهم الصمت، أو المراوغة في الكلام، في استمرار ظلم يجب تغييره أو محنة يمكن تخفيفها، فلا خيار إلا أن تتحدّث بوضوح وتُكشف الحقيقة التي تختبئ تحت عباءة الكلمات”.

ورغم ذلك، لا يمكن إلغاء مفهوم الحياد من أساسه. وهنا سؤال يحتاج إلى إجابة، وهو: متى يصبح الحياد ضرورة؟
فهناك حالات يكون فيها الحياد ضرورة استراتيجية أو مهنية، كما هو الحال في عمل بعض منظمات الإغاثة، أو في مبادرات الوساطة السياسية المعقّدة.

لكن حتى هذا الحياد ليس معفيًا من التقييم الأخلاقي. فحين يتحوّل إلى وسيلة لتجنّب اتخاذ موقف من العدالة، أو يصبح واجهة لتسويات لا تنصف الضحايا، فإنه يُفرّغ من مضمونه.

القاعدة الأخلاقية البسيطة تقول: “في القضايا التي تمسّ الكرامة الإنسانية، الصمت موقف، وإن تَنكّر صاحبه لذلك.”

في ميزان الإيمان.. عندما يُصبح الصمت خذلانًا

في لحظات الانكشاف التام، لا يبقى الحياد موقفًا نظريًا فحسب، بل يتحوّل إلى تحدٍّ أخلاقي يُختبر فيه صدق الإيمان قبل أي اعتبار آخر.

فالقيم الإيمانية في جوهرها لا تقبل الحياد في وجه الظلم، ولا تسمح بالسكوت حين تكون الكلمة شهادة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.

هنا لا يُدان الفعل فقط، بل تُدان النية الصامتة، ويُحمَّل القلب وِزر كتمان ما يجب قوله. وهذا يتجاوز المفهوم القانوني للشهادة، ليصل إلى واجب الموقف في القضايا التي تمسّ الإنسان وكرامته.

وقد وضّح النبي محمد ﷺ هذا المبدأ حين قال: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”،
قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: “تمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصره”.

إنّ هذا الحديث لا يترك مساحة للصمت المتذرّع بالحياد، بل يجعل التدخّل موقفًا إيمانيًا لا مجرّد خيار أخلاقي. فحين تكون قادرًا على الحديث، فإن الصمت – في ميزان الشريعة – لا يُفهم إلا كخذلان للمظلوم، أو تواطؤ غير معلن مع ميزان القوة.

وقد جاءت أوامر القرآن صريحة لا تحتمل التأويل في مثل هذه المواقف: يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}.

فالشهادة بالعدل ليست تفضّلاً، بل فرض إيماني يتجاوز التحليلات الباردة والمواقف الرمادية.

إنها لحظة فاصلة: إما أن تكون شاهدًا لله، أو أن تكون شاهد زور بالصمت، حتى دون أن تنطق.

وهكذا، كما تتطلّب النُخَب موقفًا مسؤولًا، فإن الإيمان ذاته يرفض الحياد حين يكون الموقف ضرورة.

ففي ميزان السماء، لا يُقاس الحياد بالحسابات، بل بالضمير، وبالقدرة على أن تكون صوتًا للحق حين يخيّم الصمت.

حياد القلم والمثقف في مرمى السؤال

في لحظات التأزم الكبرى، تتجه الأنظار نحو الكُتّاب والمفكرين والمثقفين، لا لأنهم طرف مباشر في الحدث، بل لأنهم يمتلكون سلطة المعنى، وقدرة التأثير في الوعي الجمعي.

ومع ذلك، يُفضل البعض “الكتابة من بعيد”، إما خشية التبعات، أو باسم الموضوعية الأكاديمية، أو لحسابات شخصية.
لكن هذه المسافة، متى ما طالت، تتحوّل إلى مسافة تواطؤ. فالكتابة في جوهرها موقف من العالم، سواء أكان صريحًا أم مُواربًا.
وحين تتعطّل القدرة على تسمية الأشياء، فإن القلم يفقد صدقيته، ويُصبح صدى لصمتٍ غير مبرَّر.

وهنا تبرز مسؤولية النُخب في زمن الفقد الأخلاقي، ولكن ما يزيد من صعوبة هذا النقاش هو الواقع العالمي المتداخل؛ صراعات تُدار بالوكالة، وعلاقات ملتبسة، وحسابات معقّدة بين الدول، ونُظم إعلامية تمارس التضليل باسم التوازن.
وتتجلى أبرز صور ذلك في الإعلام الغربي، خاصة حين يتعلق بمناطق أخرى في العالم.

ومع ذلك، فإن معيارًا واحدًا يظل صالحًا للاختبار، وهو: هل يتسق الحياد المُعلَن مع ما تراه الضمائر البشرية من ظلم ومعاناة؟
إذا كان الجواب: لا، فإن الحياد حينها يصبح جريمة صامتة.

لذلك، لا بد من اختيار موقف يليق بالإنسان. وهذا لا يعني أن نتخلّى عن الموضوعية أو التحليل العميق، أو أن نندفع وراء العاطفة.
بل إن التحدي الحقيقي هو أن نوازن بين النزاهة الفكرية والموقف الأخلاقي، بين أن نفهم تعقيدات السياسة، وألا نُفرّط في البوصلة القيمية التي تمنح الكتابة معناها.

في زمن ما أسرع أن تتكشّف فيه النوايا، لم يعد مقبولًا أن يُكتفى بـ”التوثيق البارد” للوقائع والأحداث؛ فالناس لم تعد تنتظر فقط من يُخبرها بما جرى، بل من يساعدها على فهم ما يجب أن يكون.

ختامًا

ولأن الصمت ليس دائمًا حكمة، هنا يطرح السؤال نفسه: هل الحياد اليوم يُعبّر عن الحكمة، أم هو شكل جديد من أشكال الخوف؟
وهل يمكن المحافظة على المهنية والموضوعية، دون أن تُفقَد الإنسانية؟

في عالم اليوم، الذي أصبح القتل فيه علانية، والصراخ مدويًا، لم يعُد الصمت حيادًا، بل أصبح بيانًا سياسيًا بامتياز.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان