جيل طوفان الأقصى

جيل طوفان الأقصىى (الأناضول)

لم يكن في إمكان المقاومة الفلسطينية أفضل مما كان.
مع الفارق الرهيب في التسليح، والدعم الأمريكي المفتوح، ووحشية اليمين السياسي والعسكري الإسرائيلي، فضلًا عن التخاذل العربي ضعفًا أو خيانة أو كراهيةً للمقاومة من حيث المبدأ، فإن موافقة حركة المقاومة (حماس) على خطة الرئيس ترامب لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، تعد الخيار الذي لا خيار سواه لحقن دماء الشعب الفلسطيني.

ما من مثقال ذرة من المنطقية في أن نتوقع من المجوَّعين المحاصرين المشردين والرازحين تحت نيران القنابل المحرمة دوليًّا الصمود إلى ما لا نهاية، ذلك أن صمودًا على هذا النحو، وفي هذه الظروف البائسة، يجافي فطرة النفس البشرية التي تميل إلى الحرص على البقاء.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

يكفي الشعب الفلسطيني فخرًا، أنه رغم ما تكبَّده على مدى عامين متصلين من ويلات الإبادة الجماعية، قد تشبث بترابه الوطني، مُبديًا بسالة أسطورية أمام مؤامرة التهجير، ولو إلى جنات تجري من تحتها أنهار اللبن والعسل، كما حاول ترامب أن يوحي.

منذ لحظة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وحتى تدشين الهدنة، اجترح الفلسطينيون معجزة غير مسبوقة في تاريخ نضال الشعوب ضد قوى الاحتلال.
دمَّر القصف الصهيوني البنية التحتية لقطاع غزة عن بكرة أبيها لكنهم صمدوا، استحالت المستشفيات والمدارس ودور العبادة ركامًا لكنهم صمدوا، طحن شتاءان قارصان بغير كهرباء عظامهم لكنهم صمدوا، طحنوا أعلاف البهائم تحت وطأة الجوع لصناعة الخبز لكنهم صمدوا، وواروا فلذات أكبادهم الثرى لكنهم صمدوا.

خوف وجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات.. لكنهم صمدوا وصبروا.

مشاهد لا تُنسى، امتزجت فيها الدماء بالدموع، والدموع بالصبر الجميل، والصبر الجميل بصيحات توعد الاحتلال بالثأر، وصيحات التوعد بعمليات بطولية من المسافة صفر.

لكن لم يعد في قوس الصبر منزع، كان لا بد من إيقاف المقتلة، ولو كانت ضمانات الهدنة هشة والشروط مجحفة، وعلى كل حال فمتى لم يصطلِ الفلسطينيون نيران الإجحاف؟

سؤال اللحظة: ما المكتسبات والخسائر؟

على أن وقف العدوان بعد هذه الملحمة البطولية يستدعي بالضرورة السؤال حول مكتسبات عملية طوفان الأقصى وخسائرها.

والمؤكد أن سؤالًا كهذا لا يتوخى السير في ركاب شذاذ الآفاق؛ رموز نخبة التطبيع العرب، ممن يعمدون إلى تأثيم حركة حماس لا لشيء إلا لأنها أدت عن الأمة بأسرها “فريضة المقاومة”، ولا يستهدف بالتوازي تسويق الخرافات والعنتريات، بل يروم استشراف مآلات القضية الفلسطينية، إجلاءً لصورة الغد وتوضيحًا لما سيكتنفه من تحديات.

وإذا كان معلومًا بالضرورة أن أي حراك تاريخي كبير، على غرار عملية طوفان الأقصى، لا تسفر تداعياته عن وجوهها كاملةً في التو واللحظة، إذ لا بد من فترة زمنية لاختمار تلك التداعيات، فإن ذلك لا يمنع أن ثمة مؤشرات أولية تنجلي في الوقت الراهن، وتستدعي تبعًا لذلك مناقشة مساراتها.

في صدد الحديث عن الخسائر، لا مناص من الإقرار بأن كل قطرة دم فلسطينية هي ثمن موجع للغاية، ولعل العالم بأسره لا يساوي جناح بعوضة إزاء مأساة مثل مأساة الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار، التي فُجِعت حيث كانت تؤدي عملها، في مجمع ناصر الطبي، باستقبال جثامين تسعة من أطفالها العشرة متفحمين.

فاتورة أفدح من فادحة سددها الدم الفلسطيني الطاهر.. لكن كذلك هي المعارك الوجودية، وسواء رضينا أم لم نرض، تبقى الحقيقة أن: “للحريةِ الحمراء بابٌ * بكلِّ يدٍ مضرجةٍ يُدقُ”، كما قال أمير الشعراء شوقي، وكما ردد من بعده الشهيد بإذن الله يحيى السنوار.

لا استرخاص للدم الفلسطيني، ولا استصغار لمرارة الألم الذي تجرَّعه أبناء غزة، لكن ما من شك في أن التضحيات لم تذهب سدى، فكما تألم الفلسطينيون تألم الاحتلال بالتوازي.

من أعمق الخسائر الإسرائيلية، ما يقول به كتَّاب وباحثون كثيرون، ومنهم إسرائيليون بالمناسبة، بشأن تغير بوصلة الرأي العام الدولي، أو بالأحرى الغربي الذي طالما سار كالمنوَّم مغناطيسيًّا وراء السرديات الإسرائيلية.

هذا المتغير -وليس سواه- هو الذي أرغم مجرم الحرب نتنياهو على القبول بوقف العدوان، وهو الذي دفع الرئيس ترامب إلى أن يقول له في محادثاتهما الثنائية: “بيبي.. لن تستطيع أن تحارب العالم بأسره”.

مع تهافت الأساطير الإسرائيلية عن واحة الديمقراطية المحاصرة بالعرب البرابرة، تخسر دولة الاحتلال الشيء الكثير من عناصر قوتها، وتتعاظم الخسارة بالنظر إلى أن إسرائيل في الأصل كيان طفيلي لا يملك من مقومات البقاء إلا الدعم الغربي، وليس أدل على هذه الحقيقة من أن حكومتها المتطرفة هرعت تستصرخ واشنطن أن تدعمها عسكريًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا، حين داس “منتعلو الشباشب” على كبريائها العسكري والاستخباري في الساعات الأولى لـ”الطوفان”.

غير أن هذا المتغير رغم أهميته، ليس الأكثر تأثيرًا في معادلات الصراع، بل إن هنالك متغيرًا عربيًّا سيكون له ما له في المستقبل غير البعيد.

المعادلة واضحة: إما نحن وإما نحن

لقد أسفرت عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من مجازر إسرائيلية، عن تبصير الأجيال العربية الناشئة بحقيقة الصراع الوجودي الذي يتهدَّد أمتهم، بل ويتهدد مستقبلهم كآحاد أيضًا.

ثمة جيل يُشار إليه على سبيل التصنيف بجيل “زد” وبعده جيل “ألفا”، وُلِد أعضاؤه وشبوا في زمن التطبيع الرديء، وتعرض وعيهم الجمعي لتجريف ممنهج عبر خطاب إعلامي مدلس، ومناهج دراسية دأبت على تسويغ الخنوع، إلى حد حذف الآيات القرآنية التي تقص سيرة بني إسرائيل.

هذا الجيل سيمتشق لا محالة سيف النضال ضد الاحتلال مستقبلا، بعدما أعادت له عملية “طوفان الأقصى” الوعي بمن هو العدو ومن هو الشقيق، ورأى رؤية العين أن الكيان الذي أشيع أنه لا يقهر، محض نمر ورقي صنعته الدعاية العربية قبل الغربية، فأدرك بعد ذلك كله أن المعادلة صفرية: إما نحن وإما نحن، وليست إما نحن وإما هم.

في كتابه الموسوم “تعليم المقهورين”، يذهب عالم الاجتماع البرازيلي باولو فريري إلى أن التغيير الحقيقي في مسيرة نضال الشعوب يبدأ حين يعي البشر أنهم مضطهدون مقهورون، وحين يدركون بعدئذٍ طبيعة دورهم في مقاومة جلاديهم.

هذا ما فعلته عملية طوفان الأقصى؛ أحيت القضية في نفوس الأجيال الناشئة، ورسخت في وجدانهم أن المعركة حتمية، وما دام الوعي حيا نابضا فلا خوف على فلسطين، ستتحرر لا شك في غدٍ لم يكن قريبًا منذ النكبة كما هو قريب الآن.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان