العالم ينتظر المشهد القادم

في لحظات التحوّلات الكبرى، لا تعود الأحداث مجرّد عناوين عابرة، بل تتحوّل إلى علامات فارقة في الذاكرة السياسية للبشرية. وحين نتحدث عن غزة، فنحن لا نصف جولة من جولات الصراع العربي الإسرائيلي فحسب، بل نقف أمام نقطة فاصلة في التاريخ السياسي العالمي. فكل ما قبلها شيء، وكل ما بعدها شيء آخر. هناك عالمٌ يتداعى ببطء خلف الركام والدخان، وآخر يتكوّن بهدوء تحت الرماد. وبين هذين العالمين، يقف الجميع في لحظة انتظار ثقيلة، انتظار «المشهد القادم».
من واشنطن إلى موسكو، ومن بكين إلى أوروبا، ومن طهران إلى أنقرة، ومن بيروت وصنعاء وبغداد إلى كييف، تترقّب العيون ما سيحدث بعد أن تهدأ المدافع ويخفت صدى الانفجارات. لا أحد يعرف شكل هذا المشهد بعد، لكنه بالتأكيد لن يشبه ما قبله. النظام الدولي الذي صُمّم في أعقاب الحرب الباردة يعيش اليوم اختبارًا قاسيًا، والإقليم الذي رسمت حدوده القوى الكبرى في القرن الماضي يُعاد رسمه من جديد.
غزة.. الحدث الذي فجّر ساعة العالم
لم يكن العدوان الأخير على غزة مجرّد مواجهة عسكرية أو حملة إسرائيلية تقليدية ضد حركة مقاومة فلسطينية، بل كان أشبه بزلزال جيوسياسي كشف هشاشة البنية التي استند إليها النظام الدولي لعقود. لقد فشلت إسرائيل، رغم تفوّقها العسكري الهائل ودعمها الغربي غير المحدود، في تحقيق نصر حاسم. وفشل الغرب، رغم أدواته السياسية والاقتصادية، في فرض روايته على الرأي العام العالمي كما كان يفعل دائمًا.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4«الإجهاد» وحش نستطيع ترويضه وتقليل خسائره.. بهذه الخطوات
- list 2 of 4لماذا تهدد روسيا باستخدام النووي؟ وكيف ينظر الناتو لهذا التهديد؟
- list 3 of 4جنوب السودان: هل تراجعت حظوظ بول ميل في خلافة سلفاكير؟
- list 4 of 4من “أوفوا بالعهد” إلى أوسلو.. إسرائيل نموذجًا لنقض المواثيق
لكن الأهم من ذلك أن غزة أعادت ترتيب سلّم الأولويات الدولية؛ إذ لم تعد أوكرانيا وحدها في قلب الحسابات الاستراتيجية، ولم تعد المواجهة الأمريكية الصينية تحتكر عناوين المرحلة. غزة وضعت المنطقة على الطاولة، ليس بوصفها ساحة صراع محلي، بل باعتبارها مفتاحًا لفهم مستقبل التوازن العالمي.
لقد كشفت الحرب أن القوة العسكرية وحدها لم تعد تكفي لصياغة النظام الدولي، وأن الصراع القادم لن يكون بين جيشين بقدر ما سيكون بين رؤيتين للعالم: رؤية ترى في السيطرة غاية، وأخرى تجعل من الصمود عنوانًا لإعادة تعريف القوة.
الشرق الأوسط.. مختبر إعادة إنتاج التوازنات
إذا كان القرن العشرون قد جعل من أوروبا مسرحًا للحروب التي غيّرت وجه العالم، فإن القرن الحادي والعشرين يثبت أن الشرق الأوسط هو المسرح الذي سيُرسم فيه شكل النظام القادم. فكل عقدة جيوسياسية في الإقليم تحوّلت إلى مؤشر على تحوّلات أوسع.
العراق، هو ساحة التوازن الأكثر حساسية؛ فوجوده في قلب المعادلة الجيوسياسية يجعله مقياسًا لصراع النفوذ الأمريكي والإيراني، ويجعل من أي تغيير فيه إشارة مبكرة على طبيعة التحالفات القادمة. وإيران، تعني خسارتها لنفوذها في سوريا ولبنان واليمن أنها تقف على عتبة إعادة تعريف دورها الإقليمي بالكامل، خصوصًا أنها تدرك تمامًا خيار التحالفات في تغيير قواعد اللعبة الدولية.
الشرق الأوسط اليوم ليس مجرد جغرافيا نزاع، إنه «مختبر» يعيد العالم من خلاله اكتشاف قواعد اللعبة، وأي تغيير في هذا المختبر ستكون له ارتدادات تتجاوز حدوده الجغرافية بكثير.
النظام الدولي.. توازن القوى في مرحلة ما بعد الغرب
منذ نهاية الحرب الباردة، ظلت الولايات المتحدة اللاعب الوحيد الذي يملك حقّ تعريف القواعد الدولية. لكن فيما بعد غزة يبدو أن هذا التفوّق المطلق بدأ يتآكل ببطء. فالنفوذ الأمريكي يواجه تحديات من ثلاثة اتجاهات في وقت واحد:
من الصين التي تصعد اقتصاديًّا وتعيد هندسة طرق التجارة العالمية عبر مبادرة “الحزام والطريق”، وتستخدم قوتها المالية لتوسيع مجال نفوذها دون إطلاق رصاصة واحدة.
من روسيا التي لا تزال – رغم حربها المستنزفة في أوكرانيا- قادرة على تعطيل قرارات الغرب وإعادة صياغة بعض معادلات الطاقة والأمن في أوروبا.
ومن الاقتصاد العالمي نفسه الذي بدأ يتحرر تدريجيًّا من هيمنة الدولار، مع تصاعد محاولات دول الجنوب لتأسيس منظومة مالية موازية.
في هذا السياق، تصبح غزة رمزًا لتحوّل أعمق: لم تعد القوة العسكرية الأمريكية والإسرائيلية قادرة على فرض إرادتها كما كانت تفعل دائمًا. الرأي العام الغربي نفسه أصبح منقسمًا، والتحالفات القديمة بدأت تتصدّع، والمفهوم الكلاسيكي لـ”القطب الواحد” صار ماضيًا يتراجع إلى الخلفية.
المنطقة بين تراجع أدوار وصعود أخرى
تعيش إسرائيل إحدى أعقد لحظاتها الاستراتيجية منذ تأسيسها. فصورتها كقوة لا تُقهر تآكلت بفعل صمود غزة، وعلاقاتها الإقليمية التي بنتها في السنوات الأخيرة عبر «اتفاقات التطبيع» أصبحت مهددة بتبدّل المزاج الشعبي العربي والإسلامي. كما أن دعم واشنطن لها لم يعد كافيًا لحمايتها من عزلتها الأخلاقية المتنامية في الساحة الدولية.
في المقابل، تتحرك تركيا بصمتٍ وحذر ولكن بثبات. فهي تعيد بناء دورها في الإقليم عبر ثلاثة مسارات متوازية: التمدد الاقتصادي في آسيا وإفريقيا، والتحالفات الأمنية في البحر الأسود وشرق المتوسط، والمبادرات الدبلوماسية في ملفات غزة وأوكرانيا والقرن الإفريقي. هذه السياسة المرنة جعلت أنقرة لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أي هندسة جديدة للمنطقة.
اللافت أن أنقرة وتل أبيب تتحركان في اتجاهين متعاكسين: الأولى تصعد بهدوء نحو مركز الثقل، والثانية تتراجع رغم امتلاكها لأدوات القوة. وفي هذا التباين تكمن دلالة عميقة على موازين القوى القادمة في الشرق الأوسط.
المشهد القادم.. صراع على تعريف المستقبل
العالم لا ينتظر حدثًا واحدًا، بل ينتظر سلسلة من التفاعلات المتشابكة التي ستحدد شكل القرن المقبل. فاليمن لن يبقى حربًا منسية، ولبنان لن يبقى ورقة في يد طهران، والعراق لن يبقى ساحة نفوذ متنازعًا عليها إلى ما لا نهاية. وإيران نفسها ستُضطر إلى إعادة تعريف مشروعها الإقليمي بعد خسائرها المتتالية.
وفي المقابل، لن تبقى روسيا عالقة في مستنقع أوكرانيا إلى الأبد، ولن تستطيع الصين تأجيل اختبار المواجهة مع الولايات المتحدة إلى ما لا نهاية. وحتى الدولار، الذي كان أداة القوة الأولى في النظام الدولي، يواجه الآن تحديات بنيوية قد تغيّر معادلة الهيمنة المالية.
كل هذه التفاعلات ستصبّ في لحظة واحدة: لحظة إعادة تعريف النظام الدولي. هل سيكون تعددي الأقطاب فعلًا؟ هل ستُكتب نهاية «عصر الغرب» الذي بدأ مع الحروب الصليبية وتوّج بالاستعمار الحديث؟ أم أننا أمام إعادة إنتاج لهيمنة جديدة بأدوات مختلفة؟
الجواب عن هذه الأسئلة لن يأتي سريعًا، لكنه حتمي. والملامح الأولى له ستُرسم من رحم الشرق الأوسط، ومن بين أنقاض غزة تحديدًا. فهذه البقعة الصغيرة التي أرادها الاحتلال أن تكون هامشًا منسيًّا، تحوّلت إلى مركز ثقلٍ يعيد تعريف القوة والضعف، والصمود والانهيار، والسيادة والتبعية.
الانتظار الذي يعيد كتابة العالم
العالم حقًّا ينتظر المشهد القادم، لكن هذا الانتظار ليس سكونًا. إنه حركةٌ عميقة تحت سطح الأحداث، تتشكّل فيها موازين القوة الجديدة ببطء. ما بعد غزة لن يشبه ما قبلها، لأن غزة لم تكن حربًا عادية، بل كانت نقطة الانكسار الكبرى التي منحت النظام الدولي ملامحه التالية.
في السنوات القادمة، سنرى إقليمًا يُعاد تشكيله من جديد، ونظامًا عالميًّا يُعاد تعريفه، واقتصادًا عالميًّا يُعاد توزيع أوزانه. في قلب هذا كله ستبقى العيون شاخصة نحو الشرق الأوسط، ليس لأنه مركز الأزمات فحسب، بل لأنه سيكون -للمرة الأولى منذ قرن- مركز صياغة المستقبل.
