تغييرات مرتقبة في المنطقة بعد عامين من الحرب

ليس هناك خلاف على اعتبار «طوفان الأقصى» أحد الأحداث الكبرى التي مرت بمنطقتنا، وبالعالم خلال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ولن يقل في تأثيراته وتداعياته عن أحداث كبرى شهدتها نفس الفترة، مثل أحداث 11 سبتمبر/أيلول مطلع القرن، والغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والربيع العربي، وحرب أوكرانيا، إلخ.
حرب امتدت لأكثر من عامين، لم تكن قاصرة على طرفَيها المباشرين، وهما جيش الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، بل دخلت على خطها جيوش وأجهزة مخابرات عالمية وإقليمية، حاولت إعادة ترتيب المشهد الفلسطيني والإقليمي، وتحقيق مكاسب ذاتية، لكن نتيجة الحرب لم تحقق بالضرورة كل ما تمنته تلك الأطراف.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4الزيتون.. حكاية صمود في وجه الجفاف والاحتلال
- list 2 of 4اتفاق المياه بين تركيا والعراق: تعاون استراتيجي أم عودة للاستعمار؟!
- list 3 of 4تراجع الهجرة إلى إسرائيل وتزايد الهجرة الخارجة منها
- list 4 of 4قاهرة يوسف شاهين وفرح الهاشم تحت مقص الرقيب
يمكننا هنا ملاحظة تداعيات تلك الحرب الحالية والمستقبلية على أكثر من مسار، أولها مسار القضية الفلسطينية نفسها، وعلى الداخل الإسرائيلي، والتطبيع الإبراهيمي، والتحالفات الإقليمية، وتحولات شعوب المنطقة، وتحولات الرأي العام العالمي.
طوفان إحياء القضية
كانت غزة، وعلى مدى 17 عامًا، تعاني حصارًا بريًّا وبحريًّا وجويًّا إسرائيليًّا، بل حتى حصارًا على مصادر الطاقة والاتصالات، إلخ. وكانت القضية الفلسطينية نفسها تلفظ أنفاسها الأخيرة في ظل خذلان عربي إسلامي، وتكالب إقليمي ودولي أراد تشييعها إلى مثواها الأخير، وفرض مشهد إقليمي جديد (شرق أوسط جديد) يكون فيه الكيان هو القائد السياسي والعسكري، وتكون فيه الدول الخليجية هي المحفظة المالية، وتكون فيه الدول العربية الأخرى هي «الشغيلة» والأدوات المنفذة.
أدركت المقاومة الفلسطينية هذا المخطط، ولم تشأ أن تقف مكتوفة الأيدي اتجاهه رغم إمكانياتها المحدودة، لكنها أدركت أيضًا أن القوة المادية الظاهرة ليست وحدها الكفيلة بصنع التغيير، بل هناك قوة إيمانية خفية تحيل الضعف قوة، والتردد شجاعة وإقدامًا، مستلهمة قول الحق تبارك وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
أعدت المقاومة عدتها بكل ما استطاعت من قوة، ثم أطلقت «طوفان الأقصى» لمواجهة تلك الترتيبات التآمرية، فهزمت، بأدواتها البدائية، أحدث ما أنتجته التكنولوجيا العالمية من أدوات حماية وتسليح، ونجحت في الوقت نفسه في الإفلات من تلصص هذه التكنولوجيا على أنفاقها، ومخازن ومصانع سلاحها، وأماكن احتجاز الأسرى الإسرائيليين لديها. وخرجت القضية الفلسطينية من ثلاجة حفظ الموتى، ودبّت فيها الحياة من جديد، وتحرر آلاف الأسرى الفلسطينيين، وتسابقت الدول في الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة.
تغير الرأي العام العالمي
قبل مرور سبعة أشهر على بدء معركة الطوفان، اعتمدت الأمم المتحدة في مايو/أيار 2024 بأغلبية 143 صوتًا قرارًا يدعم طلب فلسطين الحصول على عضوية كاملة فيها، وفي يونيو/حزيران الماضي أعلنت بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا والبرتغال اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، ليصل عدد المعترفين بالدولة الفلسطينية إلى 159 دولة. صحيح أنها خطوة رمزية حتى الآن، لكنها تكشف تحولًا كبيرًا في اقتناعات العواصم الكبرى في العالم اتجاه الحق الفلسطيني، وهو ما لم يكن موجودًا قبل الطوفان.
التحولات في المواقف الرسمية العالمية كانت من جانبها أيضًا استجابة لتحولات شعبية واسعة تمثلت في مظاهرات حاشدة في العديد من عواصم القرار الغربي، قادها جيل الشباب (Gen Z)، وهو ما يعني أن المستقبل أفضل للقضية الفلسطينية، فهذا الجيل هو الذي سيتولى مواقع المسؤولية في بلاده لاحقًا، لينهي حقبًا من الدعم الغربي الأعمى للاحتلال الصهيوني.
لا تسليم للسلاح
الدمار الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي في غزة غير مسبوق، ومع ذلك سيتم إعادة بناء القطاع على أسس عمرانية حديثة تليق بأهله الذين تحملوا الكثير، وقدموا أنموذجًا في الصبر والتضحية والتمسك بالأرض رغم كل الدمار والقتل، ورغم كل مغريات التهجير. لن تسلم حماس وفصائل المقاومة الأخرى سلاحها، ولن تغادر القطاع كما يتوهم البعض، فحماس حركة عقدية تفضل الاستشهاد على الاستسلام، كما أنها استفادت من تجربة مغادرة منظمة التحرير لبيروت عام 1982 إلى تونس، حيث لاحقها العدو هناك أيضًا رغم تعهداته للوسطاء.
تداعيات الطوفان على الداخل الإسرائيلي لا تزال مستمرة، وعقدة الخوف لدى الصهاينة تعززت أكثر، ولا نزال نشهد تحولًا عكسيًّا للهجرة اليهودية من الكيان إلى خارجه، كما أن التوترات تزداد داخل الكيان بين قواه السياسية والدينية المختلفة على خلفية الفشل في مواجهة الطوفان. ورغم دعوات الرئيس الأمريكي ترامب للرئيس الإسرائيلي بإصدار عفو عن نتنياهو، فإن ذلك لن يحدث، وستستمر محاكمته على أخطاء مادية سابقة، وسيضاف إليها فشله في مواجهة الطوفان.
تغييرات سياسية إقليمية
رغم أن تفاعل الشعوب العربية والإسلامية مع الحدث كان أقل من التوقعات، فإن هذه الشعوب أصبحت تدرك خيانة بعض حكامها الذين منعوها بالقوة من التعبير عن تضامنها مع المقاومة. فقد أظهرت وثائق مسربة تواطؤ عدد من الحكومات العربية مع الكيان الصهيوني خلال فترة الحرب، وهو ما مثل عنصرًا جديدًا للغضب لدى شعوب المنطقة، يُضاف إلى غيره من الأسباب السياسية والاقتصادية المحلية، وأهمها حالات الانسداد السياسي والقمع الأمني، والتدهور الاقتصادي، لتسهم جميع هذه الأسباب في صناعة رأي عام ضاغط بقوة لإحداث تغييرات سياسية باتجاه تحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد، والإعلام الحر. كما أن هذه الشعوب ستواجه بقوة محاولات «التطبيع الإبراهيمي» التي يحلم بها نتنياهو وترامب. فحكومات المنطقة لم تعد على درجة حماسها السابقة لهذا التطبيع، وستسندها الشعوب عند تعرضها لضغوط إسرائيلية أمريكية.
لقد أعاد الطوفان رسم خريطة التحالفات الإقليمية بدلًا من صناعة شرق أوسط جديد على مقاس نتنياهو. ونظرة واحدة على تطور العلاقات المصرية مع كل من قطر وتركيا تؤكد ذلك، لقد حولها الطوفان من العداء إلى التحالف، وتنظيم المناورات العسكرية، والمشاريع الاقتصادية المشتركة. كما طورت تركيا علاقاتها مع دول الخليج التي كانت تناصبها العداء أيضًا، وانتصرت أخيرًا الثورة السورية، وأطاحت حكم بشار، كما نجا المشروع النووي الإيراني من التدمير الذي أراده العدوان الأمريكي الإسرائيلي في يونيو/حزيران الماضي، وتطور التعاون العربي والإسلامي مع الصين، وإن لم يتبلور في حلف سياسي حتى الآن. والخلاصة أن حلم نتنياهو في شرق أوسط على مقاسه لم يعد قائمًا.
