تيك توك من منصة صينية إلى ساحة نفوذ للصهاينة!

شعار تيك توك مع العلمين الصيني والأمريكي (رويترز)

قبل أن تضع الحرب الإسرائيلية على غزة أوزارها، دعا رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، شركات علاقات عامة أمريكية إلى مكتبه، ليدفع لها ملايين الدولارات لـ”تطوير استراتيجية هجومية” عبر منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها “تيك توك” و”إكس”، لـ”استعادة الشرعية الأخلاقية لإسرائيل” لدى الرأي العام الغربي.
تستهدف الحملة تنظيم حملات إعلامية واسعة لتحسين سمعة نظام الاحتلال، الذي أصبح نموذجا يفوق النازية في بشاعتها والفاشية في قسوتها ونظم الإبادة والعنصرية في أفظع صورها، دفع شعوب العالم للتحرك باتجاه معاكس لأغلب حكوماتها للاحتجاج على الحرب الوحشية التي ارتكبها على مدار عامين. حول نتنياهو غزة إلى مقبرة جماعية أكثر سوءًا مما خلفته القنابل الذرية التي أُلقيت على ناغازاكي وهيروشيما باليابان، تضاءلت أمامها محارق “الهولوكوست” التي أشعلها هتلر ضد اليهود والأقليات العرقية في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية.

الرواية القذرة

ذكرت صحف إسرائيلية أن نتنياهو خصص أموالا إضافية لحملات دعائية تستهدف مشاركة صناع المحتوى المؤثرين على “تيك توك” بالذات، لإعادة صياغة “سردية الحرب” ليروي القصة القذرة بزاوية أخرى مخالفة للواقع، غير التي شهدها العالم على الهواء مباشرة، بعد أن أيقن أن مقاطع دعم إسرائيل التي أنفق عليها ملايين الدولارات، تحقق تفاعلا أقل من 10% مقارنة بالمحتوى الداعم لغزة المنتشر عالميا، بدون أيّ نفقات، بل تأثرًا بالمشاهد الحية للمجازر التي ارتُكبت ضد الأبرياء في غزة.
أصبح تيك توك نافذة الجيل الجديد على الأحداث بلا وسطاء، مثل يوتيوب وإنستغرام وشورتس، وهو ما كسر الإعلام التقليدي الغربي المملوك للصهاينة والطارد للأصوات الأخرى. في استطلاع أجرته جامعة هارفارد عام 2024، قال 68% من الشباب الأمريكي إنهم يعتبرون ما يجري في غزة “إبادة جماعية”، وهي نسبة لم تصل إليها أي قضية خارجية تهم الأمريكيين منذ حرب فيتنام بسبعينيات القرن الماضي.
تغير الرأي العام الأوروبي جذريًّا اتجاه إسرائيل منذ 2023، وخصوصا بعد المجازر الموثقة في غزة. حشدت معظم المدن مظاهرات تدعو لعزل إسرائيل رياضيا وثقافيا، وملاحقة نتنياهو وعصابته جنائيا، ومقاطعة بضائعها وطرد سفرائها. اللافت أن تصرفات نتنياهو عكست انهيار صورة “الجيش الذي لا يُقهر” التي سعت إسرائيل لترسيخها لعقود، والتصقت سيرته بالعنف غير المبرر وقتل الأطفال والنساء بسادية.

معركة “السردية”

تواجه إسرائيل “أزمة هوية دولية”، لم تعد في نظر الشعوب “الدولة الديمقراطية الوحيدة بالشرق الأوسط”، بل قوة احتلال تقود حرب إبادة موثقة بالصوت والصورة، أوقعتها في ثلاث حروب متوازية: عسكرية في غزة، وإعلامية على وسائل التواصل، وسياسية في الداخل والخارج، تهدد كيانها ومستقبلها.
بهذه الخطوة أدرك نتنياهو أن معركته لم تنته عند وقف إطلاق النار، وإنما ستظل مستمرة على المنصات وذاكرة الشعوب، لذا فكر في صياغة العقول والوجدان لدى المتأثرين بها، وخاصة بالولايات المتحدة، الراعي الرسمي للنظام الصهيوني المتطرف. يدرك نتنياهو أن الحرب على النفوذ لم تعد تدور في غرف الأخبار أو عبر القنوات الفضائية الذائعة الصيت، مثل سي إن إن وفوكس نيوز، بل انتقلت إلى الهواتف الذكية الصغيرة التي يملكها أكثر من 3 مليارات نسمة حول العالم. تجاوز “تيك توك” كونه منصة للترفيه، ليصبح ساحة للصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين، قبل أن تنضم إسرائيل إلى المشهد مدركة أن معركة “السردية” حول عدوانها على غزة تُحسم اليوم عبر خوارزميات المنصات وشبكات الإنترنت لا البنادق التي تجيد صناعتها وتصديرها لعدد كبير من الدول. قال نتنياهو صراحة لمستشاريه: “نحن نخسر الحرب في وعي الشباب الغربي، فيجب أن نستعيد المنصة التي تهاجمنا كل يوم”.

عصابة الصهاينة الثلاثة

تحولت منصة تيك توك خلال 5 سنوات فقط إلى أحد أهم مصادر الأخبار للشباب الأمريكي. فحسب تقرير حديث لمركز بيو (Pew) الأمريكي للأبحاث، ارتفعت نسبة من يحصلون على الأخبار من التطبيق من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما من 9% عام 2020 إلى 43% عام 2024، في حين قال ربع من هم بين 30 و49 عاما إنهم يعتمدون عليه بانتظام. هذه القفزة غير المسبوقة جعلت من المنصة التي يدخلها يوميا 170 مليون أمريكي و150 مليونا في العالم العربي، وعلى رأسهم شباب أقل من 30 سنة ، من النشطاء الذين وثقوا وساهموا في نقل رواية المجازر كما عاشها الفلسطينيون عبر آلاف الفيديوهات التي رصدت عمليات القصف الوحشي بالطائرات والقنابل والدبابات والصواريخ والمعاناة اليومية لأهل غزة الذين نزحوا مرارًا من أماكن سكنهم، وتحطمت بيوتهم وفقدوا نحو 67 ألف شهيد.
مع ذلك، فإنه منذ جلوس نتنياهو مع الشركات الأمريكية، هناك رصد لزيادة ملحوظة في الحسابات الموالية لإسرائيل على تيك توك، مع انحياز إعلامي غربي واضح للرواية الصهيونية للعدوان، بالتوازي مع تراجع مقاطع توثق جرائم الاحتلال بغزة والضفة الغربية. يتزامن هذا التغيير مع توسع نفوذ الشركات الأمريكية على المنصة بعد أن تقدم لاري إليسون، أكبر متبرع للجيش الإسرائيلي والملياردير المالك لمجموعة “أوراكل”، أكبر منصة بيانات في العالم، لشراء “حصة الأغلبية بنسبة 80% من أسهم شركة بايت دانس، المالك الصيني لمنصة “تيك توك”.
عندما نتحدث عن إليسون، الشديد التعصب لإسرائيل والصهيونية واحتلال القدس لتشييد “عرش سليمان” وإعلان الدولة اليهودية لاستعجال عودة “المسيح”، فهو الرجل الذي يخزن بياناتنا والعالم أجمع لدى شركته “أوراكل” ويمكنه أن يسلمها لإسرائيل. يبني إليسون شراكة عميقة مع شركة بلانتير الإسرائيلية المتخصصة في المراقبة بالذكاء الاصطناعي التي يديرها الصهيوني الإسرائيلي أليكس كارب. إذا أضفنا إلى العصابة شريكا ثالثا وهو بيتر تيل، الشريك في ملكية بالانتير الإسرائيلية، الذي مول إنتاج فيلم وثائقي طويل مؤخرا تتركز رسالته على أنه “إذا تحكمنا في الذكاء الاصطناعي، سنتمكن من الإسراع في عودة “المسيح الدجال”، وسنعلم مدى خطورة ما نواجهه.

الحقيقة والانقسام الرقمي

هذا التحالف الخطير يدير حربا واسعة للسيطرة على عقولنا ليس لصالح إسرائيل فقط، بل لإعادة هندسة الوعي العالمي، بفضل التحكم في خوارزميات المنصات بتوجيه المستخدمين نحو روايات محددة، سياسية أو ثقافية، دون أن يدركوا أن هناك من يتلاعب بعقولهم وأن بياناتهم التي يحملها “تيك توك” وغيره ستُستخدم في أغراض أمنية وسياسية، وتعزيز الصورة الإسرائيلية.
سيجري نقل ملكية تيك توك من الصين إلى العصابة الأمريكية، بأول مقابلة بين الرئيس الأمريكي ترامب والصيني شي جين بينغ الذي اكتفى بعمل نسخة صينية من تيك توك، تُعرف بـ”غلوبال كور” تعتمد على خوارزميات صينية بحتة تمكنها من الحفاظ على نفوذها بالأسواق الأمريكية، تشكل بداية “انقسام رقمي” بين الشرق والغرب، تقوده الصين بتطبيقاتها المحلية، بينما تهيمن عليه واشنطن عالميا، بتحالفات تجمع بين قوة أوراكل وميتا وغوغل، التي تتقاطع مصالحها مع الأجندة الصهيونية، وتعمل على تهميش المحتوى العربي والفلسطيني تحت مبررات التحريض أو “الأخبار المضللة”.
مع انتقال تيك توك إلى أيدي تحالف تكنولوجي موالٍ لإسرائيل، تتزايد الأسئلة حول من سيكتب السردية، وحق التحكم في الذاكرة البصرية لجيل كامل يرى العالم من خلال شاشات ومنصات لا يملك العرب فيها ناقة ولا جملا.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان