جائزة نوبل للسلام.. القتلة على منصة التتويج!

فيليب أجيون، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أحد فروع الجائزة التي لا تثير الجدل، مثل جائزة السياسة الخاصة بالسلام (غيتي)

لن أستغرب إذا فاز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا العام أو الأعوام المقبلة بجائزة نوبل للسلام رغم السخرية التي يتلقى بها العوام وكثير من النخب رغبته الملحة والمعلنة في نيل أهم جائزة لصناع السلام في عالم أنهكته الحروب ومزقته الصراعات.

سيكون أمرا عاديا لو فعلتها لجنة جائزة نوبل للسلام التي شكت من ضغوط وحملة علنية شنها الرئيس الأمريكي المثير للجدل في محاولة لتوجيهها نحو إعلان فوزه بالجائزة الأهم في عالم السياسة وحقوق الإنسان.

القتلة حاضرون

لا يخلو تاريخ الجائزة الأشهر من محطات مثيرة للجدل، فقد مر بها ووقف ليتقلدها قتلة وسفاحون بل ورجال عصابات وتلك قصة درامية تستحق أن تروى، إذ تكشف تفاصيلها أن صناع السلام لم يقفوا وحدهم على منصات التتويج وإنما زاحمهم عليها قادة عسكريون وميدانيون سابقون تلوثت أيديهم بدماء المدنيين العزل، لكنهم جنحوا للسلم لأسباب تتعلق بضرورات السياسة وأحكامها وليس بالإيمان بعدم جدوى العنف والقتل.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

اعتقد القائمون على أمر جائزة نوبل أن هذا الاتجاه ربما دفع قادة اتخذوا من العنف سبيلا وشجعهم على التخلي عن هذا النهج عبر الاحتفاء بمسلكهم السلمي.

وعندما أُعلن عن جوائز نوبل للمرة الأولى عام 1901، بعد وفاة مؤسسها بسنوات خمس كانت الجوائز تكريما للمانح وليس فقط للفائزين، تنفيذا لوصية الرجل الذي أراد أن يُعرف لا بأنه مخترع سلاح للقتل، بل بأنه منحاز لمن يمنح السلام لهذا العالم.

مكافأة استباقية

في العام الأول من القرن العشرين بدأ منح جائزة نوبل للسلام وتنوع الفائزون بها من الرهبان إلى القادة ومن النشطاء إلى الرؤساء، لكن الجائزة تم حجبها عدة سنوات خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي مرات أخرى متفرقة بسبب عدم الاتفاق على مرشح أو عدم وجود مرشح مناسب.

كانت الجائزة في معظم الأحوال تتويجا لعمل بارز من أجل السلام، لكنها لم تكن دائما مجرد احتفاء بإنجاز إنساني حقيقي لمن بذلوا جهودا استغرقت سنوات أو عقودا للدفع نحو السلام، فقد اتجهت الجائزة أحيانا إلى أن تكون رسالة تشجع على السلام أو الاتجاه نحوه، حتى لو منحت لمن تورطوا في العنف أو دعوا إليه أو تسببوا في مقتل الملايين لكنهم تراجعوا أو أظهروا تراجعهم وجنوحهم للسلام، فأضحت وكأنها مكافأة استباقية لحث المتنازعين على المضي قدما نحو السلام.

جدل الفائزين

منذ بداياتها مطلع القرن العشرين أثارت بعض اختيارات لجنة جائزة نوبل للسلام الجدل ولم تحز على الرضا أو القبول العام ووجدت دائما رافضين لما انتهت إليه لجنة الجائزة التي واجهت انتقادات مبكرة بعد اختيار الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت في 1906 للفوز بالجائزة لتوسطه في إنهاء الحرب بين روسيا واليابان، وذلك لكونه عسكريا معروفا بتدخله المسلح في أمريكا اللاتينية واتباع “سياسة العصا الغليظة”.

بعد أقل من شهر من تعيينه وزيرا للخارجية الأمريكية عام 1973 فاز هنري كيسنجر مع المفاوض الفيتنامي “لي دوك ثو” على جائزة نوبل للسلام مناصفة لتوقيعهما اتفاق وقف إطلاق النار في فيتنام، وقد كان كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأمريكي قبل تعيينه وزيرا للخارجية، وكان أحد مهندسي اتفاق باريس للسلام، الذي أنهى نظريًّا حرب فيتنام بداية عام 1973.

ميدانيا لم تتوقف الحرب واستمرت الغارات والمعارك بعد الاتفاق، وسقط آلاف القتلى فأعلن دوك ثو رفض الجائزة احتجاجا على استمرار الحرب، وقال في بيانه “لا سلام في بلادي بعد، ولذلك لا أستطيع أن أقبل جائزة السلام”، وقد كان هذا أول رفض علني لجائزة نوبل للسلام منذ إطلاقها بداية القرن العشرين.

أما كيسنجر فقد كان متهما بالمسؤولية عن تصعيد القصف الأمريكي ضد كمبوديا ولاوس، وعن سياسات خارجية تسببت في مقتل مئات الآلاف، كما دعم انقلابات دموية في أمريكا اللاتينية.

تسببت صدمة فوز كيسنجر بالجائزة في إعلان عضو لجنة جائزة نوبل للسلام النرويجي كاري كريستيانسن استقالته احتجاجًا على قرار منح الجائزة لثعلب الخارجية الأمريكية، ووصف الكاتب الأمريكي توماس كارليل في صحيفة واشنطن بوست الجائزة بأنها “مكافأة على حسن إدارة الحرب لا على إنهائها”، واعتبر المؤرخ النرويجي المتخصص في جائزة نوبل آسلي سفين أنها “أسوأ جائزة في تاريخ جوائز نوبل للسلام” كما نشرت صحيفة نيويورك تايمز افتتاحية بعنوان “جائزة نوبل للحرب”، وأدان أساتذة جامعة هارفارد العريقة الاختيار الذي “يتجاوز ما يمكن أن يتحمله شخص يتمتع بفهم بسيط للعدالة”.

ومنذ سبعينيات القرن الماضي، أصبح كيسنجر الذي لم يستطع السفر لتسلم الجائزة خوفا من المظاهرات المناوئة له مثالا يُستشهد به عند منح جائزة سلام لشخص له سجل دموي أو سياسي مثير للجدل، أو استخدم القوة العسكرية.

الصهيوني يفوز

في عام 1978 أعلن فوز الرئيس المصري محمد أنور السادات بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع مناحيم بيغين رئيس وزراء إسرائيل، وذلك بعد توقيعهما اتفاق كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، لكن فوز بيغين أثار جدلا وانتقادات لكونه من قادة العصابات الصهيونية التي تورطت في تفجيرات وعمليات إرهابية مسلحة ضد المدنيين في الأربعينيات على أرض فلسطين التاريخية، قبل تأسيس دولة إسرائيل مثل تفجير فندق الملك داود في القدس عام 1946، واعتبر على نطاق واسع أن الجائزة تكريم لزعيم عصابة يده ملطخة بالدماء.

ولم يسلم السادات من الانتقاد أيضا من أصوات عربية رأت في الجائزة مكافأة له على ما اعتبرته تطبيعا مع العدو الصهيوني.

عندما كانت آونغ سان سو تشي زعيمة المعارضة في بورما تناضل ضد الحكم العسكري حصلت على الجائزة عام 1991، لكن بعد توليها السلطة (2016–2021)، اتُّهمت بغض الطرف عن جرائم الإبادة ضد مسلمي الروهينغا وعدم حمايتهم وطالب كثيرون بسحب الجائزة منها لعدم إدانتها المذابح ضد الأقلية المسلمة في بلادها، ولتنكرها لمبادئ الجائزة وما ترمز إليه.

في عام 1994 حصل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ومعه إسحاق رابين رئيس الوزراء وشمعون بيريز وزير الخارجية الإسرائيليين على جائزة نوبل لتوقيعهم اتفاق أوسلو للسلام، وطالت الانتقادات الثلاثة الفائزين لممارستهم العنف سابقا وأنهم قادة حرب، لكن عرفات كان الأقل جدلا لأنه زعيم حركة تحرر وطني، رغم قيادته لعمليات فدائية مسلحة ضد إسرائيل بينما كان بيريز مسؤولا عن مذبحة قانا 1996 في لبنان، كما كان رابين من قيادات المنظمات الصهيونية قبل تأسيس إسرائيل، واعتبرت الجائزة التي مُنحت لاثنين من المسؤولين عن ما يعتقد أنها جرائم حرب مصالحة رمزية وليست تقديرا حقيقيا للسلام الذي لم يتحقق حتى الآن في الشرق الأوسط.

ماذا فعل ليفوز؟

في 2009 وبعد أقل من تسعة أشهر من توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية فاز باراك أوباما أول رئيس من أصول إفريقية بجائزة نوبل للسلام، وهو فوز مثير للدهشة حمل إعجابا بما ينويه أوباما أو بما قاله لا بما فعله واقعا، حيث قالت اللجنة في حيثيات إعلان فوزه إنه جاء “تشجيعًا على رؤيته لعالم خالٍ من الأسلحة النووية”، ووصفت الجائزة لذلك بأنها “جائزة نيات مستقبلية، لا إنجازات”.

بعد فوزه شهدت سنوات حكم أوباما اللاحقة توسعا في استخدام الطائرات المسيّرة والحروب بالوكالة، مما جعل كثيرين يعتبرون الجائزة مبكرة جدًّا ومبالغًا فيها حتى أوباما نفسه قال لاحقًا: “لم أكن أستحقها بعد”.

أما رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد فقد حصل على الجائزة في 2019 لمبادرته للسلام مع إريتريا، ثم بعد عامين اتهمته منظمات دولية بارتكاب جرائم حرب في إقليم تيغراي الذي شهد ما يمكن وصفه بأنه حرب أهلية.

لا تمنح الجائزة الأهم في العالم لمن أوقفوا الحروب فقط، بل مُنحت أيضا لمن تلطخت أيديهم بالدماء تشجيعا لهم على التوقف أو عدم الاستمرار، وهذا معناه أن جائزة نوبل للسلام لا تتمتع بنقاء السجل الأخلاقي مما يجعل الجائزة رمزا للجدل والمواءمات السياسية أكثر منها واجهة للسلام العالمي، ولذلك لن يكون مستغربا لو استقرت بين يدي الرئيس الأمريكي ترامب الذي يدعي إنهاء حروب لم تقم أصلا.

دونالد ترامب الذي يوصف بأنه شعبوي ليس داعية سلام ولكنه تاجر ووسيط ماهر يريد تهيئة الأجواء للصفقات والاتفاقات والعمولات، وجائزة نوبل للسلام ليست بريئة تماما ولا عجب أن يلتقيا في القريب غير العاجل.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان