هنا غزة، بصوت أنس الشريف

صوتٌ صاخبٌ من قلب غزة، يقف بين أهلها حاملًا ميكروفون الجزيرة لينقل (كما اعتاد) الخبر على الهواء مباشرةً من بين أشلاء الشهداء، وجراح المصابين، وطرقات المستشفيات، وصرخات الجوعى الذين استطاع ببراعة أن ينقل أنَّاتهم للعالم، فامتلأت بطون الجوعى على إثر صوته الصادق ببعض الطعام.
وها هي غزة اليوم تحتفل بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار بعد تمام سنتين من الدمار وأصوات «الزنانات»، وآلاف الأطنان من المواد المتفجِّرة، وعشرات الألوف من الشهداء، وأضعافهم من المصابين والمشرَّدين، ومئاتٍ من الأسر التي مُحيت تمامًا من السجلات فصارت أثرًا بعد عين. ها هي تنتفض فرِحةً في بقايا شوارعها التي مُحيت معالمُها، فلم تعد تدري أين بدايتُها من نهايتِها، أو أين حدودُها.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4الوطني والأيديولوجي في الديمقراطيات العربية
- list 2 of 4معاقبة مغتصب الأطفال بالإخصاء الكيميائي؟
- list 3 of 4زهران ممداني.. المسلم الذي كسر أسطورة اللوبي الصهيوني
- list 4 of 4الزيتون.. حكاية صمود في وجه الجفاف والاحتلال
تنتفض غزة وتجفِّف دموعَها قبل أن تجفَّ دماءُ أبنائها، وترتجُّ الأرضُ بالأمل بعدما اعتادت أن ترتجَّ بالقنابل وقصف الدبابات. وها هو من بين الركام يظهر لينقل الخبر الذي انتظرته البلاد منذ سنتين من الفقد؛ يخرج أنس الشريف، في رفقة إسماعيل الغول، وحسام شبات، وقريقع، وحمزة الدحدوح، والمفاجأة أن ترافقهم شيرين أبو عاقلة تتمسَّك بميكروفونها وتوجِّه الكاميرات نحو الدموع الجافة والدماء التي ما زالت نازفة، وبصوت عزيز تنقل لنا الصورة: هنا غزة النصر، بعد صمود أسطوري حرَّك العالم نحوها مُرغمًا.
هذه شيرين أبو عاقلة من شارع صلاح الدين
فوق بعض الحطام، وفي زاوية من زوايا الشارع الطويل التي تتيح لها الفرصة لرؤية النازحين العائدين لما تبقَّى من حطام بيوتهم في شمال غزة، تقف مذيعة الجزيرة شيرين أبو عاقلة في بداية الطريق الذي يقسم غزة نصفين. تتحدث شيرين لتصف حال الناس في قافلة العودة قائلة: هؤلاء هم أهل العزم عائدون أعزَّةً برغم وجوههم المتعبة، وقلوبهم المثقلة بالأسى، لكن ها هو بريق أعينهم يتحدى الزمن. وها هم أطفال غزة يركضون نحو مستقبلهم المرسوم على جدران الخيام الممزَّقة بأقدام حافية أو بأحذية مهترئة، يعبرون حفر الطريق المصنوعة بقذائف العدو، بينما النساء يجررْن الحقائب بما تبقى فيها من أثر البيوت القديمة التي غادرنها منذ سنتين كاملتين؛ منهن من تحمل حقيبة، ومنهن من تحمل طفلًا رضيعًا. كيف لا، وهو شعب وُجِد للبقاء وليس للفناء؟
ومع صوتها ينتقل مصوِّر الجزيرة بكاميرته ليبرز الجدران المحترقة، وأعمدة الكهرباء المنحنية على جانبي الطريق، والشارع الذي كان يومًا يضج بالحياة. تلمح المراسلة امرأةً تنتحي جانبًا، ثم تعبث بأناملها في الأرض لتثير بعض التراب. تُهرع إليها لتسألها: لماذا تجلسين فوق هذا الركام يا خالة؟ تجيبها المرأة التي يبدو أنها تحمل آلاف السنين فوق كاهلها: هنا يا ابنتي كنا نغرس الزيتون إلى جانب الياسمين، هنا بقايا منزلنا، هنا سأغرس خيمتي، فما زالت رائحة مزروعاتي تنبعث من قلب التراب.
تنتقل شيرين أبو عاقلة من صورة إلى صورة في الشارع الذي لم يعد مجرَّد خطٍّ فاصِلٍ بين شقَّي غزة، بل صار كتابَ تاريخٍ يحمل أحلامًا وذكرياتٍ تُسجَّل كي لا تضيع الحقيقة تحت الركام.
ومن شارع الرشيد ينقل أنس الشريف
يقف أنس الشريف منذ الصباح الباكر، حيث مئات الألوف تتوافد في اتجاه الشمال. يتلعثم حينًا، ويخنقه البكاء فرحًا بالنصر المؤزَّر وتوقُّف السماء عن هطل الرصاص. يخلع خوذته الثقيلة وهو يداعب المارِّين ويهرول ليختطف منهم حوارًا وهم متعجِّلون للوصول إلى وجهتهم صوب الشمال. وبينما «شام» تُعرقل خطواتِه السريعة وتطالبه بحملها، يبتسم لها قائلًا: حاضر يا روحي. ثم يمسك الشريف بميكروفونه متحدثًا: أيها المتابعون، لا أستطيع أن أصف لكم تلك اللوحة المضيئة التي ترتسم منذ باكر. قافلة طويلة من البشر المنهكين جوعًا وإصاباتٍ تمشي وكأنها نهر من الأرواح والأمنيات متدفقة بهِمَّة نحو مدينة غزة.
في المقدِّمة الأطفال يركضون ليسبقوا خطوات أهليهم، بينما الرجال يجرون عرباتٍ صدئة تحمل أمتعة متواضعة؛ بعضها بطاطين لا تقدر على وقايتهم من برد الشتاء المقبل بعنف، وبعضها قدورٌ سوداء من دخان الطهو على الخشب، ووجوه يكسوها العرق وتراب الطريق، لكن بريقًا ما يخرج منها يحاول إخفاء أثر الحرب الطويلة. وأرضٌ تُطوى تحت أقدام الفرحين بالعودة إلى خيمة أُخرى، غير أنهم راضون. وها هو بحر غزة يداعب أقدام العائدين فرحًا وقد شهد النزوح، وها هم يَبرُّون قسمَه بأنهم حتمًا من نفس الطريق عائدون. أمواجٌ طالما تكسرت على شاطئ غزة الأبيَّة، كما تكسرت سطوة الطغيان على تلك القلوب العنيدة. ليس لدى أنس الشريف وقت ليهرول بدوره نحو بيته ليطمئن إلى ما فعلته به الحرب، فإنه الآن مشغول بنقل الحديث الذي لا ينبغي أن يُنسى.
الشعب الطيب يشكر الشعوب التي آزرت
ولأن شعب غزة شعبٌ لا يعرف الأحقاد، فقد حمل في طريقه نحو الشمال امتنانَه لمن ساهموا في وقف الحرب. وبين دموع الفرحة، وبين جهد الطريق الذي شهد الملحمة، ينقل الشريف شكرَ الصامدين الذين لم يدفنوا شهداءهم جميعًا بعدُ، لكل من ساهم في وقف الحرب، وتعاطف مع الملحمة الإنسانية.
هنا الحكاية لم تنتهِ بانتهاء القصف، بل هي في الحقيقة بدأت توًّا؛ فهؤلاء أطفال يعبرون طريقًا نحو المستقبل وهم يقفزون في الهواء مردِّدين أناشيد النصر بعدما سطَّروه بدماء ذويهم. منهم من يعود في صُحبة والديه أو أحدهما، ومنهم من يعود منفردًا، لكنه يصرّ على عبور الطريق ليصل إلى هدفه بين الركام. ها هو صوت غزة يسطر الحقيقة بدموع مقلتيه ورأسٍ حاسر، ويدين لم تعودا تستطيعان ضمَّ «شام» كما كانتا يومًا؛ صوت غزة، أو صوت أنس، محدِّثًا ضمير العالم.
غزة بين الحرب والسلام، حكاية لن تُمحى
وبين الأصوات التي غابت بإصرارها على نقل الحقيقة كاملةً حتى اللحظات الأخيرة، انتهت الحرب بقرارٍ عالمي، لكن عشرات الأصوات التي ارتقت استمرَّ رجعها يملأ المكان. وبين عشرات البيوت المهدَّمة، وآلاف الأطفال الذين تيتموا، وعشرات الآلاف الذين ارتقوا، والمستشفيات التي تحوَّلت إلى مقابر جماعية وملاجئ للأحياء وخرجت عن كونها مستشفياتٍ لتضميد جراح المصابين لقلة الإمكانات؛ سيظل كل هذا في ذاكرة التاريخ الحديث كلِّه، وليس في ذاكرة غزة وحدها.
لقد استطاع الأبطال الأسطوريون أن يُحيلوا القضية التي كادت تموت إلى حالةٍ عالمية تمثِّل الضمير الغائب طويلًا، فنطقت الشعوب حريةً، وتحركت السفن رغم خطورة تحرُّكها صوب غزة. فكيف تُمحى؟ وكيف تغيب؟
لقد تحوَّلت الصحافة إلى مقاومة، وتحول الفعل إلى ذاكرة، وتحولت غزة إلى رمز لن يغيب عن ذاكرة العالم يومًا. فرحم الله شهداء الكلمة الذين كتبوا رواياتِهم التي صدَّقها العالم وتحرك من أجلها؛ فلن يعود العالم قبل «طوفان الأقصى» إلى ما كان قبله.
