إمكانية البناء على خطة ترامب: قراءة في المشهد المتغير

(1) تحوُّل في الموقف الأمريكي
شكَّل مؤتمر السلام في شرم الشيخ لحظة فارقة، ليس فقط لمحاولته إيقاف الحرب، بل لإثباته قدرة العرب على تغيير مواقف الدول الكبرى عندما تتوفر الإرادة السياسية وتُفعَّل الأدوات المتاحة. لقد بدا واضحًا أن الموقف العربي الموحَّد بدأ يحصد نتائجه على الموقف الأمريكي.
فالموقف المصري الحازم الرافض للتهجير القسري لسكان غزة، والمبادرة السعودية الفرنسية الداعمة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، التي أدت إلى اعتراف دولي متزايد بالدولة الفلسطينية، ولقاءات قادة الدول العربية والإسلامية بترامب على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعرضُهم رؤيةً مغايرةً للرواية الإسرائيلية، كلّ ذلك كان له أثرٌ بالغ.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4عندما نفقد الشغف بالانتخابات رغم أنها قمة السياسة!
- list 2 of 4ثورة «المتصفحات الذكية» للإنترنت.. والاحتلال الرقمي للعقول؟
- list 3 of 4هل أصبحت عودة السوريين من ألمانيا حتمية؟
- list 4 of 4مصر وفلسطين بين احتلالين ومقاومتين
ولم تكن المظاهرات الشعبية الضخمة في المدن الأوروبية وحول العالم المؤيدة للحق الفلسطيني، والمندِّدة باستمرار حرب الإبادة على غزة، بمنأى عن التأثير في القرار الأمريكي.
ترامب شخص ذكي يدرك تقلبات الرأي العام بسرعة، وهو مرنٌ وقادر على امتصاص الصدمات وتغيير المسار لتفاديها. وقد أدرك أن صورة إسرائيل في العالم تضررت كثيرًا، وأن ذلك يمكن أن ينعكس سلبًا على صورة أمريكا كقائدة للعالم، بسبب دعمها غير المشروط لدولة الاحتلال. ولأنه شخصية تهتم بالصورة أكثر من المحتوى، فقد فوجئ بخلو القاعة تقريبًا حين كان نتنياهو يلقي كلمته في مقر الأمم المتحدة، وهي صورة مُذلَّة تؤكد أن معظم دول العالم أصبحت تنظر إليه على أنه مجرم حرب تلوثت يداه بدماء الفلسطينيين الأبرياء.
لقد أثبتت مصر وقطر قدرتَهما على التأثير بوصفهما وسيطتين فعَّالتين في مسار التفاوض، ولا يمكن تحييد دورهما أو المضي قدمًا من دون مساعدتهما. كما لا يمكن إغفال الدور التركي الوسيط والضامن لوقف الحرب على غزة.
في شرم الشيخ، كان حضور ذلك العدد الكبير من قادة العرب والعالم دليلًا على رغبة عربية وإسلامية وعالمية جامحة في إنهاء هذه الحرب التي تهدد القيم الإنسانية والاستقرار الإقليمي والدولي. وكأن الحضور قد اتخذوا موقفًا حازمًا اتجاه أمريكا، مفاده ضرورة أن تقوم بدورها باعتبارها طرفا وحيدا قادرا على كبح جماح رغبة الانتقام العارمة لدى حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف اتجاه الشعب الفلسطيني.
(2) الكنيست: مسرحية سياسية ببطولة مزدوجة
يمكن قراءة مشهد حضور ترامب إلى الكنيست بوصفه عرضًا للولاء بين حليفين، أو مناورة مسرحية متفقًا عليها. الهدف: تمكين ترامب من ممارسة الضغط على نتنياهو لوقف الحرب، مع إتاحة الفرصة للأخير ليظهر أمام شعبه وكأنه انتصر وأنجز أهداف الحرب القذرة على غزة، التي تحدث عنها كثيرًا.
فتبييض وجه نتنياهو وإسباغ صفة «القائد الحازم» عليه هو جزء من لعبة ترامب المعتادة في «المدح والذم». فهو يُغدق المديح على من ينصاعون، ويشن هجمات على من يعارضون، في إطار سياسة «العصا والجزرة» التي أفرط في استخدامها حتى بدت مبتذلة ورخيصة.
واللافت أن ترامب الذي تحدث في الكنيست كان نسخة مشوهة من ذلك الذي ظهر في شرم الشيخ. في تل أبيب امتنع عن أي ذكر لحقوق الفلسطينيين أو دولتهم المستقبلية أو رفضه سياسة الاستيطان التي تتبعها حكومة نتنياهو. وفي شرم الشيخ، تحدث عن السلام والاستقرار. بدا الأمر وكأنه يقدم عرضًا لرواية «الدكتور جيكل ومستر هايد» على المسرح السياسي، حيث يقوم بتجسيد الشخصيتين لكن في أماكن مختلفة!
(3) وقف الحرب في غزة مجرد بداية
لا يمكن التعاطي مع خطة ترامب على أنها تمهد لحل القضية الفلسطينية حلًّا دائمًا وعادلًا. فطبقًا لتصريحاته للصحفيين على الطائرة الرئاسية التي أقلته إلى واشنطن، لم يُشر إلى حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة، ولم يُناقش الأمر أساسًا. خطته تتعلق بوقف الحرب، واستعادة الرهائن الإسرائيليين، ثم التخطيط لليوم التالي: إدارة غزة، ونشر قوات لمنع أي صراع مستقبلي، ونزع سلاح المقاومة، وإعمار غزة، وإدخال المساعدات. ولم ينس ترامب الحديث عن إيران ورغبته في أن تنخرط في عملية سلام موسعة لاستقرار «الشرق الأوسط الجديد».
خطة ترامب لا يمكن أن تحقق سلامًا أو استقرارًا دائمًا في المنطقة. والقادة الذين حضروا مؤتمر شرم الشيخ أثنوا عليها كمرحلة أولى ضرورية، فلا يمكن الحديث عن سلام واستقرار والحرب دائرة. وهم يوافقون، مع بعض التحفظات، على خطة ما بعد إيقاف الحرب، إذ أصبحوا جميعًا يستشعرون الخطر من سلوك حكومة نتنياهو، وأطماعها المتزايدة في الهيمنة باستخدام القوة العسكرية المتضخمة نتيجة الدعم الأمريكي.
أما القادة الأوروبيون، فقد أدركوا أن مصالح أمريكا لا تتطابق مع مصالحهم، وأن عليهم التعامل بذكاء وحكمة وبُعد نظر مع هذا التعارض. بينما بات عدد من القادة العرب يستشعر خطر إسرائيل المباشر على أمنهم القومي.
لقد رسمت خطة ترامب فقط خط البداية لمسار طويل من العمل الجاد والدؤوب للدول العربية والإسلامية، وكل القوى العالمية التي تريد سلامًا مستدامًا يحقق استقرار الشرق الأوسط ومصالحها في آن واحد. لقد حان الوقت لأن تتعاون القوى المختلفة، عربية كانت أم دولية، لملء الفراغ الذي تركته واشنطن متعمدة أو عاجزة عن ملئه. فقوة أمريكا الحالية ليست أبدية، والإرادة الجماعية للشعوب والدول التي تريد السلام والاستقرار هي الأبقى.
البناء على خطة ترامب لا يعني قبولها، بل يعني استخدامها كنقطة انطلاق لفرض رؤية أكثر عدالة واستدامة. ومهما بلغت قوة أمريكا ونفوذها، فقد أثبتت الدول الحاضرة في مؤتمر السلام في شرم الشيخ أن رؤية أمريكا يمكن أن تتغير بالضغوط وسياسة النفس الطويل، وأن السياسة الأمريكية ليست صخرة ثابتة، وأنه آن الأوان لتتحد القوى المختلفة التوجهات لإعادة ضبط النظام العالمي لتحقيق الاستقرار. سياسات أمريكا ليست قدرًا محتومًا، وقوتها الحالية لن تظل كما هي إلى الأبد.
