أشجع قرار زواج في التاريخ.. زواج النبي بصفية بنت أعدائه!!

من المساحات التي لم تطرق بشكل كبير في السيرة النبوية، بعض مساحات خاصة في حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك: قراره الزواج من السيدة صفية بنت حيي بن أخطب، وهي ابنة عدوه، وزوجة سابقة لعدو آخر له، فربما فهمنا قراره بالزواج من السيدة جويرية بنت الحارث، وهي ابنة سيد قومها، وربما كذلك فهمنا قرار زواجه من السيدة حبيبة بنت أبي سفيان، وقد كان أبوها آنذاك من أعدائه، لكنها كانت أسلمت منذ سنين طويلة، وهاجرت مع زوجها بالحبشة، ولكن زوجها ارتد، وظلت مستمسكة بدينها، أي: أنها مؤمنة عميقة الإيمان، ملأ عليها الإيمان قلبها.
قرار شجاع من الطرفين:
لكن علامة الاستفهام التي توضع أمام حالة زواج تعد من أشجع قرارات الزواج في التاريخ، هي زواجه من السيدة صفية بنت حيي بن أخطب، فأبوها عداؤه مع الإسلام ونبيه، عداء عقدي أيديولوجي، لم تهدأ ناره قط، سنوات منذ بعثته -صلى الله عليه وسلم- وهم في تربص به، ولما هاجر للمدينة المنورة، زاد العداء، وخانوا كل المعاهدات معه، بل عرضوا الدولة للاستئصال والمحو، في غزوة الخندق.
وزوجها كان كذلك، وقتل أبوها وزوجها على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد المعركة مباشرة، يعرض عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- الزواج بها، وتقبل. أضف إلى ذلك تعرضه -صلى الله عليه وسلم- لمحاولات قتل عدة على يد قومها، وليست محاولة واحدة، ومنهم أخطر محاولة وهي وضع السم في طعامه، فيتزوج امرأة سيجمعه بها فراش واحد، وأكل وشرب من إناء واحد، على الأقل في كل يوم مرة أو أكثر، أليست هذه علامات استفهام وخطر تجعله يحترس من الإقدام على القرار، أو التفكير فيه؟
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4عندما نفقد الشغف بالانتخابات رغم أنها قمة السياسة!
- list 2 of 4ثورة «المتصفحات الذكية» للإنترنت.. والاحتلال الرقمي للعقول؟
- list 3 of 4هل أصبحت عودة السوريين من ألمانيا حتمية؟
- list 4 of 4مصر وفلسطين بين احتلالين ومقاومتين
وإذا وصفنا قرار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشجاع، فإن القرار الذي لا يقل شجاعة عن شجاعته، هو قرار صفية، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- رسول معصوم من ربه، وبين أصحابه وقومه، وهناك آلاف من المسلمين يفدونه بأرواحهم، لو حاول أحد الناس مسه بمكروه، لكن صفية هنا تدخل على مجتمع غريب عنها، مختلف عنها تماما من حيث العقيدة، ومن حيث التاريخ، ومن حيث الصورة الذهنية عن يهودية، ولو أسلمت منذ قليل، فزواجها في هذا السياق وهذه البيئة، مواجهة صعبة، على فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، وكانت بنت سيد قومها، وتعيش بين من قتلوه، وبينهم وبينه مرارات من الحروب والخيانات.
فإذا كانت صورة اليهود عند المسلمين وقتها، هي صورة الخيانة والمكر والخداع، والتعاون مع الأعداء عليهم، فإن صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند صفية لم تختلف عن هذه الصورة، فكيف غامرت بهذه الزيجة؟ وما الذي جعلها تقتنع بالزواج؟ وهل انتهت نظرة التشكك فيها بعده؟ وما الذي يطمئن المسلمين على رسولهم مع زوجة ظروفها بهذا الشكل معه؟ وهذه التساؤلات طرحها مستشرقون وغيرهم، بأنه تساؤل طبيعي، وشكوك المسلمين في محلها ومنطقية، وتردد صفية في الأمر كذلك.
كيف اقتنعت صفية بالزواج؟
لقد طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- صفية للزواج، في ظروف عسيرة، ويصعب فيها العرض والقبول، لكنه -صلى الله عليه وسلم- أزال كل الحواجز النفسية التي تقف أمام الموضوع، فخيّرها وقد كانت بين سبايا (خيبر)، أن يعتقها وتذهب إلى أهلها، أو أن يعتقها ويتزوجها، فقبلت بمنحته، والزواج منه، لكن الذي شجعها على القرار هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أزال ما لديها من صورة بغضته إليها، وكذلك أنها فكرت بعقلها الراجح رغم حداثة سنها فيما عرض عليها، وفيما مر عليها من تاريخه.
وتحكي صفية في روايات عدة كيف حدث هذا التحول؟ فقالت: كان بعيني خضرة فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “ما هذه الخضرة بعينيك؟ ” فقالت: قلت لزوجي: إني رأيت فيما يرى النائم قمرًا وقع في حجري، فلطمني وقال: أتريدين ملك يثرب. قالت: وما كان أبغض إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتل أبي وزوجي، فما زال يعتذر إليّ فقال: “يا صفية إن أباك ألّب عليّ العرب، وفعل وفعل”، “حتى ذهب ذاك من نفسي”.
وفي رواية أخرى قالت: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما من الناس أحد أكره إلي منه، فقال: إن قومك صنعوا كذا وكذا، قالت: فما قمت من مقعدي، وما من الناس أحد أحب إلي منه”.
وقد تذكرت صفية أحداثا من قبل، رأت فيها كيف أن أباها وعمها وكانا من علماء اليهود وسادتهم، وقد ذهبوا لرؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- حين جاء للمدينة، وتساؤلا بحضورها: هو النبي المنتظر؟ فقالا: نعم، ورغم إقرارهما بأنه نبي، إلا أنهما أعلنا العداوة، ومواقف أخرى بدأت تستدعيها صفية، لتؤكد في نفسها، ما يحكيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من بداية أهلها له بالعداء، ومناصبته له، والإنسان أحيانا يحتاج للحظات يسيرة حتى يسترجع ما مر عليه من مواقف حجبت عنه رؤية الحقيقة، وعندما يزيل إنسان الغبش، تتضح له الأمور، والشجاع حينئذ من يمتلك التراجع، وكانت صفية من هؤلاء.
النبي الزوج داوى جراحها:
إن من العوامل المهمة التي لا ينظر إليها الباحثون، وبخاصة من الغربيين الذين ينظرون لزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لصفية، بأنه زواج شهوة، لجمال صفية، فإن نظمي لوقا وهو كاتب مسيحي مصري، يرد عن ذلك بأنه كان في الأسر من هن أكثر جمالا من صفية، ولكنها نظرة رجل حكيم، رأى ابنة سيد، فعاملها معاملة عزيز قوم ذل، ولم يرد لها أن تكون في وضع مهين لها، فرفعها ورفع مكانتها لزوجة.
كما أن النظر لهذا الزواج بأنه مبني على الشهوة، هي نظرة غير صحيحة، فيقول الدكتور مصطفى محمود عن ذلك: (الشهوة لا تطهر النفوس أبدا، بل تزيدها ظلاما.. إنما نحن أمام مودة، ومروءة، وحنان ورأفة.. وما كان زواج محمد بزوجاته إلا عطاء للمودة وتحملا للأعباء، فكان يضم الواحدة ومعها عيالها، وكلهن متزوجات ما عدا عائشة.. فأي حمل وأي أعباء، وإن الواحد منا ليعاني من إزعاج امرأة واحدة وعيالها فيضيق صدره، ويخرج عن صوابه، فما بال هذا القلب يسع تسع زوجات بعيالهن، وغيرتهن، ومكائدهن، وإزعاجهن، ومطالبهن المتناقضة.. أين الشهوة هنا؟ إنه بلاء وابتلاء لهذا القلب وامتحان لعطائه السخي الذي لا ينفد وللحلم والصبر والوداعة والبشاشة في تلك النفس الكريمة التي لا يعرف الغضب لها سبيلا).
ويتساءل مصطفى محمود كيف تحول هذا البغض الشديد، لحب لا مثيل له؟ فقال: (إنها لم تحب النبي فقط، بل أحبت الدين، وافتدته إلى النسمة الأخيرة من عمرها. وهنا يقف القارئ المتأمل لاهث الأنفاس متسائلا: وكيف.. كيف استطاع حبها أن يعبر ذلك البحر من الدم، وأن يتغلب على يهوديتها وعنصريتها، وارتباطها بقومها، وأبيها وأهلها، الذين سقطوا بسيف الإسلام، ويد محمد؟!
هنا لا تجد جوابا، إلا: محمدا، وروحه المشعة الآسرة، وقلبه الطيب النبيل.. وتلك القوة القاهرة، وذلك المدد الإلهي الذي أمده الله به يغزو به قلوب أعدائه فيطهرها من الشر والغل، ويستصفي منها أحلى ما فيها.. هنا النبوة هي التي تفسر لا العظمة فنحن أمام قدرة غير بشرية).
مقومات شخصية صفية الزوجة:
أضف إلى ذلك ما تمتعت به صفية -رضي الله عنها-، من شخصية اتضحت رغم صغر سنها، فقد كانت ذات خبرة واستقلال بالرأي، ولديها رباطة جأش شديدة، فقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالزواج من ابنة عدوه، الأصعب منه قرار المرأة التي فارقت الزوج والأب، وتتزوج بمن قتلوا على يديه، ودخولها في مجتمع هي غريبة عنه، بل يعادي قومها وما قاموا به من غدر وخيانة.
ومن يتأمل في مسيرة الحياة بعد هذا الزواج، يدرك ما أثرناه من قضية شجاعة صفية في القرار بالزواج، فقد صمدت أمام الشكوك التي أثيرت حولها في كل مناسبة تستدعي ذلك، بداية من مخاوف الصحابة من حوله في بداية أمرها، ومرورا بغيرة ضراتها من أمهات المؤمنين، بل بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أن جارية لها ذهبت في فترة حكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أتته تخبره أن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث إليها عمر -رضي الله عنه-، وسألها.
فأجابت صفية بكل ثقة، أما السبت، فمنذ أن أبدلني الله بالجمعة، فلم أعظمه أبدا، وأما بري بفقراء يهود، فهو من حسن الصلة التي أمرني الله بها، ثم خاطبت صفية جاريتها: لم فعلت ذلك؟ فقالت: إنه الشيطان، فقالت لها صفية: فأنت حرة لوجه الله. وهو موقف يدل على قوة شخصيتها، وتمكن الإيمان من قلبها، وصفاء نفسها، فإن من يشكك في ديني يصعب أن أعفو عنه، وخاصة حين تكون جارية، أي: أني أملك عقابها، أو أن أبيعها لسيد آخر، لكنها آثرت ما عند الله فأعتقتها لوجه الله تعالى.
معاملة النبي لصفية ومارية تحتاج إلى دراسة:
وزاد من ترسخ الإيمان في قلب صفية -رضي الله عنها-، وتعلقها الشديد جدا بهذا الزوج النبي، أنه كان ردءا وحماية دائمة لها، ولم تشعر بغربة، أو أنها في محيط غريب عنها، ومن المساحات التي لم يلتفت إليها دارسو السيرة النبوية، تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع صفية ومارية، فالأولى: غريبة عن مجتمع المدينة المؤمن، بحكم أن أصولها يهودية، ومن قوم كانوا شديدي العداء لهذا النبي وصحبه، ومارية كانت من مصر، ولا يوجد من قومها سوى أختها، وهي عند حسان بن ثابت -رضي الله عنه-، ورجل آخر، كان ثلاثتهم هدية للنبي -صلى الله عليه وسلم- من المقوقس.
أما بقية أمهات المؤمنين من المحيط العربي نفسه، وليسوا غرباء عن هذه الأجواء، فكان في معاملته لهما، يراعي هذا الجانب، فمساحة التودد وإزالة الغربة من نفسيهما كانت أكثر، لا يلحظه بقية النساء، لكن المتأمل للمواقف، سيجد ذلك في نصوص عدة تدل دلالة واضحة على هذا السلوك النبوي، مع زوجاتها كلهن، ولكن بالخصوص مع صفية ومارية أم ولده إبراهيم.
هناك مساحات أخرى مهمة من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع زوجاته، وفي محيطه الحياتي، غير المساحات التي أفردت في السيرة من حيث الحديث عن غزواته، أو الأحداث الشهيرة، لكن هناك مساحات وأحداثا صغيرة جدا، لكن العناية بدراستها، يعطينا مساحات جديدة في فهم حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وسيرته.
