حماس لم ترمِ إسرائيل في البحر

أخرج إعلان وقف إطلاق النار قائلين كثر يفحمون من ناصر المقاومة بقلبه أو تحمَّس في عمل إسناد بأن المعركة انتهت دون القضاء على الكيان، فهو ماكث في مكانه ويتحدث عن إسرائيل الكبرى بعد. ويضيف البعض في نقاشات تُفرض علينا فرضا أن تبييض السجون لم يحدث واكتفت المقاومة بـ«250» أسيرا فقط مقابل 100 ألف شهيد (وشهيد هذه منا وليست من محاور يحرص على تسميتهم قتلى).
ونجد أنفسنا في هذه النقاشات أمام خيار من اثنين: إما الصمت حفظا للعقل أو الصوم على الغباء، ولكننا سنقول ما نفكر فيه ونتحمل كلفته، ونحن نعرف أن مصدر هذه اللغة المُزايدة كذبة قديمة سمعناها من أنظمة قالت برمي إسرائيل في البحر فانتهت بأراضيها محتلة. سنكتب لقارئ عاقل يُحسن تقدير النصر والهزيمة بأن غزة انتصرت وتنتصر، وأن المقاومة تتقدم في معركة التحرير الطويلة. (حماس) والمقاومة لم ترمِ إسرائيل في البحر، لكنها حفرت لها هوة السقوط من التاريخ.
مطلق الطوفان لم يقل برمي إسرائيل في البحر
نذكر بتسجيلات منشورة ومتداولة على نطاق واسع فيها أن القيادة التي أطلقت معركة الطوفان فجر السابع من أكتوبر كانت تعرف حدود فعلها العسكري، وقد أفصحت عن هدف المعركة: خلخلة الكيان وتهشيم قدرته على الردع وفضحه على صعيد عالمي لتخرج للعالم طبيعته العنصرية المعادية للإنسان ولكل قانون وُضع في احترام البشر. وكانت في كل ردهات المعركة، ورغم الأثمان التي ترتفع يوميا، تلحّ على هذا المعنى دون أن تلغو بأية شعارات غير واقعية.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4«الإجهاد» وحش نستطيع ترويضه وتقليل خسائره.. بهذه الخطوات
- list 2 of 4لماذا تهدد روسيا باستخدام النووي؟ وكيف ينظر الناتو لهذا التهديد؟
- list 3 of 4جنوب السودان: هل تراجعت حظوظ بول ميل في خلافة سلفاكير؟
- list 4 of 4من “أوفوا بالعهد” إلى أوسلو.. إسرائيل نموذجًا لنقض المواثيق
من كان يراقب المعركة متعاطفا مع المقاومة أو شامتا في آلامها كان يرى العدو يحسب آلياته المدمرة وجنوده القتلى والمصابين في أجسادهم وأرواحهم، وكان ذلك جزءا من عملية التهشيم المقصودة، وكان جزء من المعركة ينتقل إلى داخل الكيان نفسه فيُخرج بخاره صراعات داخلية. والأكثر قدرة على الحساب كان يقدم الأرقام الكمية عن حجم المدفوع في الحرب من ذخائر وأسلحة تُرمى فتدمر البشر والحجر والشجر، ولا تجلب نصرا بل تمهد لهزيمة أخلاقية لم يتأخر العالم في تجميع صورها والخروج ضدها في كل مدن الكوكب المستفيق على هول ما يرى. كانت كل مظاهرة في أي مكان تصب في تحقيق هدف مُعلن: فضح الكيان. كان مطلق المعركة يرى خطته تتحقق فيصبر على الثمن ويواصل متمسكا بهدفه بدمه.
في النصف الثاني من العام الثاني من المعركة اتضحت الصورة وفقد الكيان أصدقاءه من بين الشعوب ومن بين كثير من النخب، بل من بين كثير من الساسة الفاعلين الآن، ومن كان يراقب محايدا أو مترددا تخلى عن حذره وخرج إلى الشارع مؤمنا بحق أصحاب الأرض. لقد انزاح وصم الإرهاب عن الضحية إلى الإرهابي الحقيقي، وتحول الحديث من التعاطف مع الضحايا فقط إلى محاسبة المجرم. لقد ثبت جرمه الإنساني، وصار لفظ «جينوسايد» (الإبادة الجماعية) على كل لسان وبكل اللغات.
وللحظة ظننا أن إعلان وقف إطلاق النار سيهدئ الشوارع العالمية، لكننا اكتشفنا أن الوعي بالمعركة قد تحول من معركة موضعية إلى معركة كونية تتسلح بالقانون وتسعى إلى المحاكم للمحاسبة وفرض تحميل الكلفة على المعتدي. هل هذا نصر؟ لنقل إن مطلق المعركة قد حقق أحد أهم أهدافه.
ومكاسب أخرى
مطلق المعركة وكثير من المتفرجين كانوا يعرفون أهداف العدو قبل المعركة: تفريغ غزة من سكانها، ثم الاستفراد بالضفة للهدف نفسه، ثم تكملة ما بقي من النكبة أي عرب الداخل لتحقيق الهدف الأكبر (دولة يهودية خالصة لسكانها). كانت المعركة استباقًا وقد أنجزت هدفها. لم يتم التهجير وبقي أهل غزة في أرضهم، بل انتهى وهم العدو في التهجير إلى الأبد، وهو مُلزم بقوة نتائج المعركة على التعامل مع حقيقة لا مراء فيها: لن يكون التهجير ممكنا في المستقبل، وأية عودة إلى المعركة نفسها بالهدف نفسه ستصطدم بهذه الحقيقة التاريخية.
لقد انتزع السكان حقهم التاريخي في أرضهم بشهادة عالمية. هي الآن خراب، ولكن الإسمنت موجود في مكان ما. وسينتقل الحديث إلى الضفة، فبقاء أهل غزة في أرضهم هو حجة أهل الضفة. الفلسطيني ليس طارئا على المكان، بل صاحبه. هذه الآن قناعة عالمية وحجة قانونية تجعل كل خطوة تهجير جريمة دولية. ولقد كانت دوما جريمة، ولكنها الآن مثبتة بحجج الدم. كيف سيواجه الكيان هذه الحقيقة أمام العالم؟ وهب أنه استجمع قدراته العسكرية ورمّم سرديته، فكيف سيولّد من جديد حجة تطهير الأرض من أصحابها الأصليين ليحل محلهم؟ لقد كان هذا هدف مطلق المعركة وقد تحقق بأفضل الصور.
لكن الكيان باقٍ؟
نعم، لم يحزم حقائبه. لكنه سيحسب أيامه. ما زال قادرا على اصطناع سياسيين في دول كبرى يوفرون له الدعم المالي والعسكري والسياسي. ما زال قادرا على التجييش الإعلامي وشراء الصحيفة إذا تمرد رئيس التحرير. ما زال قادرا على اصطناع حزامه العربي وربما يراوده أمل التطبيع. لكن سياسيين آخرين وإعلاميين وأصحاب أموال ثقيلة سيفكرون مرتين قبل العودة إلى دعمه. لقد تفتت جبهة الدعم الخارجي المتعامية أو العمياء عن طبيعة الكيان.
لقد كان يقوم بمهمة ردع منطقة معادية للغرب (هكذا بنى السردية)، لكن المنطقة ليست كذلك، وهذه حقيقة كشفتها المعركة. شعوب المنطقة ليست في عداء مع العالم، لم تكتشف الشعوب الغربية الحق الفلسطيني فقط، بل فهمت حق العرب من حول فلسطين المحتلة ولماذا هي محتلة؟ وهذا وعي تجاوز المعركة الموضعية إلى المعركة التاريخية (إن العرب يعادون الكيان لأنه يحتل بعض أرضهم ويحاربهم ويخرب مستقبلهم). العرب ليسوا «الدواعش»، لم تكن داعش إلا فقاعة استخبارية. هذه حقيقة آخذة في الاستقرار في العقول التي كانت منوّمة بسردية الدولة الديمقراطية في غابة الوحوش العربية. ألم يكن هذا من أهداف المعركة؟
نجمع الآن مؤشرات كثيرة على تغيير عميق في الوعي الشعبي الغربي ووعي نخبه بزيف سردية العدو وصدق سردية من عاداه أو رفض وجوده وعجز عن حربه، وقد يمتد هذا الوعي إلى إنصاف كل شعب عربي يطالب بالديمقراطية في بلده الذي تحكمه الصهيونية من وراء ستار نظام عربي مصطنع. متى يتحول هذا الوعي الجديد إلى فعل سياسي يفرز حكومات تبني على الحق الفلسطيني؟ هذا فعل طويل الأمد، لكننا نراه انطلق ونراقبه من قريب، بل نستنصره على همومنا ومعاناتنا اليومية مع أنظمة الحكم التي تعيش من دعم الكيان وخدمته وتعليق الأوسمة على رقبته.
لنخرج من الخيال إلى جملة واقعية: لم ترمِ غزة إسرائيل في البحر، ولكنها أخرجتها من التاريخ بواقعية متدرجة تحلّت بذكاء المعارك الكبرى التي تغير التاريخ.
