الشرع في الكرملين.. والأسد يتابع «حظك اليوم»

كأنَّ التاريخ يُخرج لسانه مغيظا متهكما، ويمارس هوايته أو غوايته الأزلية، مُرددا الشطرة من شعر شاغل الدنيا ومالئ الناس؛ المتنبي: وما الدهرُ إلا هكذا يتقلَّبُ.
قبل أيام كان الرئيس السوري أحمد الشرع، عدو روسيا اللدود سابقا، يحظى باستقبال رسمي بقصر الكرملين، يسير على السجاجيد الحمراء، يحتفي به القيصر بوتين هَاشا بَاشا، على حين كان التجاهل يغمر سلفه المخلوع والهارب بشار الأسد، في مقر لجوئه شديد الحراسة على مقربة بالعاصمة موسكو.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4تفاكر.. مصطفى المرابط يناقش كتاب “الفيلسوف ابن ساعته”
- list 2 of 4الوطني والأيديولوجي في الديمقراطيات العربية
- list 3 of 4معاقبة مغتصب الأطفال بالإخصاء الكيميائي؟
- list 4 of 4زهران ممداني.. المسلم الذي كسر أسطورة اللوبي الصهيوني
بينما لم تفوِّت وكالات الأنباء واردة أو شاردة من لقاء الشرع وبوتين، غدا الأسد نسيا منسيا، بل إن اقتفاء أخباره صار في الآونة الأخيرة، يندرج تحت بند التسالي، على شاكلة أبواب “حظك اليوم” بصحافة الدجالين والدجالات، كما في لقاءات عمرو أديب بليلى عبد اللطيف ومن لف لفها.
المخلوع الهارب الذي اقترن اسمه بالرعب، قاصف شعبه ببراميل البارود، وكان زبانيته ينهشون لحوم معارضيه، ويجبرونهم على السجود لصورته، قد بات صفرا على شمال الأحداث، لا أثر له ولا تأثير، ولا حتى قدرة على الخروج للتريض إلا بإذن مسبق من مانحيه اللجوء.
في غضون زيارة الشرع، لم يرد ذكر الأسد إلا بخبر هزيل لوكالة الأنباء الفرنسية، وللمفارقة الصارخة لم يكن هو بطله بل كان الرئيس السوري، ومفاده أنه طلب إلى بوتين تسليمه المخلوع للقصاص منه، غير أن القيصر الروسي اعتذر عن ذلك.
ويبدو أن الكرملين قد توخى قطع دابر القيل والقال، فإذا بمتحدثه الرسمي؛ ديميتري بيسكوف يجيب على أسئلة الصحفيين: “الموضوع ليس مطروحا”، بينما أطلق وزير الخارجية؛ سيرجي لافروف، كلاما مستهلكا بأن موسكو توفر المأوى للمخلوع لاعتبارات إنسانية.
لا مجال للنظر إلى الماضي
ليس معقولا بأي حال أن تسلم دولة بمكانة روسيا، لاجئا كان حليفها أو بالأحرى ذيلها، فذلك يطعن هيبتها، كما أن تسليم الأسد أو عدم تسليمه سيان.. ولعل الأحرى بالسوريين أن يغلقوا صفحة الماضي، على طريقة مانديلا في جنوب إفريقيا.
وبعيدا عن ذلك، فاللافت أن نهايات الطغاة تكتنفها على الدوام عبر ودروس تستدعي التوقف إزاءها، وكثيرا ما تتضافر في خواتيمهم البائسة مفارقات دراماتيكية، تستنهض الأسئلة وتغري ذوي الألباب بالتفكير.
ترى كيف كان شعور الأسد حين شاهد في “محبسه الفاخر” عبر الشاشات مظاهر الاحتفاء بالرجل الذي أسقطه؟
ما حجم الأسى الذي اعتراه والمرارة التي غص بها حلقه؟
هل تدبّر تاريخه الدموي ناظرا إلى ما اقترفت يداه؟ وهل أيقن أن نهايته الدنيئة هي جزاء من جنس عمله؟
كلا البتة، إن الطغاة لا يدركون مدى قبحهم، يلوذون بآليات الإنكار السيكولوجية، لخداع ذواتهم وتبرير آثامهم وستر سوءات نفوسهم.
تلك الخاصية النفسية جسدها الراحل العظيم؛ نجيب محفوظ في “المرايا” عبر شخصية ضابط “البوليس السياسي”؛ أحمد قدري الذي حامت حوله الأساطير المرعبة، و”سُلَّ سوط عذاب يلهب الوطن والوطنيين، يُمثِّل بذوي الضمائر الحرة، وينزع أظافرهم ويطفئ السجائر بجفونهم”، حتى قامت ثورة يوليو فاكتفت بفصله من الخدمة.
في مشهد شديد الكثافة، يستنطق الأديب الكبير الضابط المُقال، فيما كان على سرير المرض فيقول لتبرير دمويته: “لم أعذب أحدا بالمعنى الشائع، كنت أنفذ عملي مثلما يكتب موظف تقريرا بناء على طلب رئيسه، عمل ليس إلا له مقاييسه من الإتقان وتقديره في حساب الواجبات العامة، وإذا وُجِد من يغالي فيه أو ينفذه بلذة خفية أو ظاهرة، فذلك يرجع إلى تعاسته المكنونة”.
ما أعمق المصطلح “تعاسته المكنونة”؟.. فهل كان الطاغية السوري يغالب تعاسته بنشر التعاسة حوله؟
الديكتاتورية كاعتلال نفسي
ذلك أقرب إلى الحقيقة، فالسير الذاتية للديكتاتوريين جميعهم، تتفق على أنهم نشأوا في ظروف قاسية.
هتلر كان أبوه فظا غليظ القلب يضربه بانتظام، ووالد ستالين كان مدمن كحول يؤذيه وأمه في نوبات السكر المجنونة، وصدام حسين شب يتيما مع زوج أم أفرط في إيلامه.. وليس مستبعدا أن الذي نشأ في كنف سفاح مثل الأسد الأب قد عاني الأمرين، وحين اشتد عوده وامتلك زمام السلطة، فرَّغ أحقاده الدفينة وعقده المخبوءة على العباد والبلاد.
نعم.. السلطة ذاك السحر الأسود والأخَّاذ الذي يستلب الطغاة، فيستحيلوا وحوشا يذودون عن كراسيهم بالنواجذ والمخالب، ويجتث الرحمة من قلوبهم حين يحسون بالخطر على عروشهم، أو حين يخدش كبرياءهم النقد، وحتى حين يتأوه المظلومون تحت سياطهم.
تبدد الهيلمان والتأله والنفخة الطاووسية، وبعد سنوات لم يسمع فيها إلا التسبيح بحمده، ها هو يرى مادحيه بالأمس إذ هم يهجونه اليوم، ويصغي لنخبته من الصحفيين والفنانيين والأدباء ورجال الأعمال يلعنونه بكرة وعشيا.
ضغط عصبي تنوء به الجبال، ينخر أعماقه كما ينخر السوس الأرضيات الخشبية في بيت مهجور، تستعمره الرطوبة وروائح العفن.
حالة عبَّر عنها العبقري الراحل أحمد زكي في دور ضابط أمن الدولة المفصول، بفيلم محمد خان البديع: “زوجة رجل مهم”: حين تنتزع السلطة من ذوي النفوس الوضيعة يتغشاهم الخواء وتغدو أرواحهم هشة متهافتة، إلى حد أنهم قد ينتحرون تحت وطأة اليأس والذهان والضلالات الهستيرية.
غير أن حتى الانتحار لا يبدو من الأفعال التي يمكن أن يقدم عليها المخلوع الهارب، ذلك أنه يتطلب جُرأة وإقداما، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.
لكن ثمة سيناريوهات أخرى، كثيرا ما رأيناها في نهايات الطغاة، منها مثلا القتل بالسم على غرار ديكتاتور ألبانيا الغابر أنور خوجة، أو صلاح جديد القائد السوري الذي انقلب عليه الأسد الأب، ومات في المعتقل العسكري مسموما وفق رواية أسرته.
وعلى ذكر السم فقد طيَّرت وكالات الأنباء أخبارا قبيل زيارة الشرع بأيام، بأن الأسد نُقل إلى مستشفى لإسعافه بعد محاولة لتسميمه، وإثر ذلك طلب المرصد السوري لحقوق الإنسان من موسكو إماطة اللثام عن الحقيقة، غير أن الأخيرة لاذت بالصمت أسبوعين، الأمر الذي أثار الريب، حتى نفت وزارة الخارجية: “لم يتعرض لأي تسمم، هذه شائعات نتركها لضمائر مروجيها”.
تتعدد الأقاويل والتكهنات، ولكل رواية ضد، غير أن المؤكد أن موت الأسد أو حياته سواء، لقد أصبح كذبابة محبوسة في كأس، أو كحيوان في قفصه ليس له إلا الطعام والماء.
يا لعجائب الأقدار!
وما دمنا بصدد الشائعات، فإن أكثرها طرافة أن الأسد يغالب رتابة حياته بممارسة الألعاب على شبكة الإنترنت، وهذه رواية لم تستدعِ نفيا أو توكيدا، لكنها بالقطع تستجلب السخرية من ذاك التافه الذي يسوقه الخواء إلى الانكباب على ألعاب الحروب الإلكترونية كأي مراهق يدمن لعبة “بابجي” الشهيرة.
الشرع في الكرملين يفاوض بوتين، والأسد يخوض الحروب “الافتراضية” التي لم يخضها في الحقيقة إلا ضد شعبه، وأغلب الظن أنه يخسر حتى في معاركه على الشبكة العنكبوتية، ولعله كدأبه يحتفظ بحق الرد أو بالأحرى “حق اللعب” المناسب في الوقت المناسب.
يا لعجائب الأقدار حين تجمع الأضداد في لحظة واحدة.


