خيانة ويلسون لحق تقرير المصير وخيبة أمل شعب مصر!

بناء المستقبل يحتاج إلى دراسة للتاريخ، وكشف الحقائق التي تمكن الشعوب من تطوير كفاحها، وابتكار أساليب جديدة للدفاع عن حقوقها، لذلك تحتاج الأمة إلى جيل جديد من المؤرخين يستخدمون أساليب الصحافة الاستقصائية، ويطرحون أسئلة جديدة، ويكشفون الحقائق التي تسهم في بناء وعي الأمة.
وتاريخ العلاقات مع أمريكا وأوروبا يحتاج إلى دراسات جديدة، فقد أسهمت السيطرة الاستعمارية والسلطوية في إخفاء المعلومات، وتضليل الجماهير، والتحكم في الجامعات لمنع الباحثين من القيام بدورهم المجتمعي في توعية الشعوب التي تحتاج إلى المعرفة أكثر من حاجتها إلى الخبز، وإلى الحرية أكثر من الأمن!.
الخيانة للقضية المصرية!
وأعتقد أننا نحتاج إلى قراءة جديدة لتاريخ مصر الحديث، لذلك سأعرض لكم صفحة منه، تبدأ عندما انطلقت آمال الشعب المصري في الحرية والاستقلال، لكن تلك الآمال تعلقت بالرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذي أعلن في خطابه أمام الكونجرس في 8 يناير/كانون الثاني 1918 مبادئه الأربعة عشر؛ التي بشرت الشعوب بأن أمريكا ستؤيد حقها في تقرير مصيرها.. فرأت الشعوب الخاضعة للاستعمار الأوروبي في تلك المبادئ أملاً في أن تسهم الولايات المتحدة في حماية حقوق الشعوب في الاستقلال والديموقراطية.
وكان شعب مصر من بين تلك الشعوب التي تلقت تلك المبادئ بحماسٍ بالغ، وتطلع إلى أن يكون للولايات المتحدة دور أخلاقي في دعم مطلبه بالاستقلال. لكن تلك الآمال انهارت بعدما أيدت واشنطن الحماية البريطانية على مصر، مما شكل خيانة لوعد الحرية، وخيبة أمل عبر عنها سعد زغلول في رسائله إلى مؤتمر الصلح وإلى الرئيس ويلسون نفسه. ولكن لماذا خان ويلسون المبادئ التي أعلنها، والتي يدرك المفكرون الأمريكيون أنها تشكل قوة أمريكا الناعمة ومكانتها العالمية، ودورها في بناء عالم جديد؟!
المصالح قبل المبادئ.. لماذا؟!
هل كان ويلسون يدرك خطورة الإحباط الذي أصاب الشعوب على صورة أمريكا ومكانتها العالمية؟! ولماذا لم تهاجم الصحافة الأمريكية قرار ويلسون بتأييد الحماية البريطانية على مصر، وتبين له أن هذا القرار يتناقض مع مبادئه، وأن أمريكا تتعامل مع الشعوب بعنصرية وظلم؟!
دراسة تاريخ السياسة الأمريكية توضح التناقض بين المبادئ والمصالح، وأن أمريكا تعمل دائما لتحقيق مصالحها، وتتخلى عن المبادئ مهما كان بريقها، وفي ضوء ذلك يمكن أن ندرك أن قرار ويلسون كان يستهدف الحفاظ على التحالف مع بريطانيا، وعلى فرض سيطرة الغرب على الشرق الأوسط، ولذلك رفض ويلسون تأييد حركات التحرر الوطني؛ فماذا يعني حق تقرير المصير، ولماذا أعلنه؟!
وكم من المبادئ البراقة تحوي في طياتها الظلم والعنصرية، فأمريكا فضلت المحافظة على المصالح الاستعمارية الغربية على تطبيق المبدأ الذي كان يمكن أن يشكل فخراً وشرفا للأمريكيين.
خطورة الموقع الاستراتيجي
من أهم المبررات التي قدمتها أمريكا لقرارها بتأييد استمرار الحماية البريطانية على مصر أهمية الموقع الاستراتيجي لمصر ووجود قناة السويس التي تشكل أهمية كبيرة لبريطانيا، ولذلك يجب على الشعب المصري أن يخضع للأمر الواقع الذي تفرضه القوى الاستعمارية.. لذلك انقلب ويلسون على مبادئه، وقرر حرمان شعب مصر من الاستقلال والديموقراطية.
بالرغم من وضوح الموقف الأمريكي وتحيزه لبريطانيا ظل الوفد يعلق آماله على أمريكا، ويرسل البرقيات إلى ويلسون بالرغم من اشتعال ثورة عظيمة كان يمكن تطويرها واستثمارها في إجبار بريطانيا على الجلاء رغم أنفها.
كلمات جميلة لخداع الشعوب!
كانت كلمات ويلسون عن الديموقراطية وتحقيق المصير جميلة وبراقة ومثيرة، وخاطبت أشواق الشعوب للحرية، لكن موقفه تجاه مصر عام 1919 خاصة حين اعترف بالحماية البريطانية جاء نتيجة موازين القوة، والمحافظة على التحالفات والمصالح، وليس نتيجة التزام بتطبيق تلك المبادئ على جميع الشعوب.
هذا القرار خلق خيبة أمل كبيرة لدى المصريين، الذين شعروا بأن وعود الحرية والمساواة لم تُطبق عليهم، وأن الولايات المتحدة تخدم مصالحها فقط.
أما بريطانيا فقد منعت الوفد من حضور مؤتمر الصلح الذي اعترف بالحماية البريطانية دون سماع صوت مصر، وهذا يشكل انتهاكا للمبادئ التي أعلنها ويلسون.. وانطلقت القوات البريطانية لإخماد ثورة الشعب المصري بالقوة الغاشمة، دون أن تستنكر الصحافة الأمريكية عنف القوات البريطانية ضد المصريين.
ومع كل ذلك ظل خطاب الليبراليين المصريين يشير بإعجاب إلى مبادئ الرئيس الأمريكي، التي تنكر لها ورفض تطبيقها على شعب مصر.
لماذا يرفعون صوره؟!
شكل القرار الأمريكي بتأييد الحماية البريطانية على مصر صدمة سياسية وأخلاقية للمصريين الذين كانوا يرفعون صور ويلسون في المظاهرات إلى جانب شعارات الحرية.
يقول محمد حسين هيكل: إن الناس كانوا يظنون أن أمريكا ستقف إلى جانب الحق لا القوة، فإذا بها تنحاز إلى القوة وتخذل الحق.
وكتب عبد الرحمن الرافعي أن خيبة المصريين من الرئيس ويلسون كانت خيبة أمل جيل آمن بأن للعدالة صوتا، فإذا به يخرس بضغط السياسة.
ويقول سلامة موسى إن ويلسون كان الحلم الجميل الذي انقلب كابوسا على الشعوب الشرقية.
كما يقول إيريز مانيلا إن المصريين شعروا بأنهم خُدعوا مرتين، مرة من بريطانيا التي أنكرت وعودها، ومرة من أمريكا التي صمتت باسم المبادئ.
لقد شكل قرار أمريكا بتأييد الحماية البريطانية على مصر أول اختبار عملي لمبادئ ويلسون التي تحولت إلى رمز لخيبة أمل الشعوب في تطبيق هذه المبادئ.
لذلك يجب أن تدرك كل الشعوب أنها يجب أن تنتزع حريتها واستقلالها وحقوقها بكفاحها وإصرارها وإرادتها ووعيها بأن أمريكا لا تمنح الضعفاء حقوقا، وأن الحرية يجب أن تدفع الشعوب ثمنها الغالي من دمائها.
إن خيبة أمل المصريين من الرئيس ويلسون ومبادئه تشكل درسا حضاريا لكل حركات التحرر الوطني؛ فالخطاب الأمريكي الذي يتحدث عن المبادئ الإنسانية يمكن أن يتحول إلى غطاء لاستمرار السيطرة الاستعمارية.. وشعوب العالم المستضعفة لا تريد من أمريكا سوى أن تكون صادقة مع نفسها.
