هل تنهار دولة الرفاهية في ألمانيا؟

المستشار الألماني فريدريش ميرتس
المستشار الألماني فريدريش ميرتس (رويترز)

دخلت ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، مرحلة جديدة من الأزمات المتراكمة التي تهدد أسس دولة الرفاهية التي عُرفت بها منذ عقود. فمع تجاوز عدد العاطلين عن العمل ثلاثة ملايين شخص في أغسطس/آب الماضي لأول مرة منذ عشر سنوات، ومع تصاعد أصوات الخبراء والسياسيين حول عدم قدرة البلاد على تمويل نظامها الاجتماعي الحالي، تبدو صورة المستقبل أكثر قتامة مما اعتاده الألمان. وقد أقر المستشار فريدريش ميرتس نفسه بأن دولة الرفاهية كما عرفها الألمان قد انتهت بالفعل.

الأرقام المتداولة في هذا الإطار تؤكد هذه الحقيقة، فوفقًا للوكالة الاتحادية للتوظيف ارتفع معدل البطالة إلى 6.4%. ورغم أن جزءًا من الزيادة يرجع إلى عوامل موسمية مرتبطة بالعطلة الصيفية، فإن المؤشرات الاقتصادية تكشف أن المسألة أعمق بكثير، وأن السوق يتجه بسرعة نحو التدهور بفعل الركود المستمر وتراجع النمو.

خيبة أمل في إصلاحات ميرتس

الخبراء الاقتصاديون يعبرون عن قلق مماثل. فالخبير دانيال ستيلتر وصف هذه التطورات بأنها «يوم حزين لألمانيا»، محذرًا من أن البلاد لا تواجه أزمة مؤقتة، بل أزمة هيكلية تشمل ارتفاع تكاليف الطاقة وتراجع القدرة التنافسية. والأخطر في نظره أن الحكومات المتعاقبة فشلت في تعديل المسار، بينما لا تُظهر الحكومة الحالية برئاسة ميرتس أي خطة إصلاحية حقيقية، وهو ما عرض المستشار لانتقادات غير مسبوقة من مختلف الأطياف.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

طالما اشتهرت ألمانيا بأنها بلاد الضمانات الاجتماعية، وأن عقودها الاجتماعية محصنة وتحمي مواطنيها، لكن تصريح ميرتس الصريح بأن «الدولة الاجتماعية كما هي اليوم لا يمكن تمويلها بمستوى الأداء الاقتصادي الحالي» أصاب الألمان بخيبة أمل عميقة، خصوصًا أنه تحدث بهذه الصراحة بعد استدانته نحو 500 مليار يورو للإصلاحات التي وعد بها قبل انتخابه.

يهدد تقلص دولة الرفاهية اليوم هذا العقد الاجتماعي الذي شكّل أساس الاستقرار الألماني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالمجتمع الذي اعتاد على شبكات أمان قوية قد يجد نفسه في مواجهة صدمات اقتصادية لا يستطيع التكيف معها بسهولة، خصوصًا مع تقدم السكان في السن، وارتفاع أعداد المتقاعدين، والضغط المتزايد للهجرة على أنظمة الدعم.

عدد من الخبراء الألمان، مثل فيرونيكا غريم وبيرند رافيلهوشن، يقترحون إصلاحات جذرية تبدأ برفع سن التقاعد، وفرض مساهمة ذاتية في تكاليف الصحة، وتحويل بعض الدعم النقدي إلى خدمات عينية، إضافة إلى إعادة الحوافز إلى سوق العمل، خصوصًا أن ملايين الألمان يعتمدون على الإعانات الحكومية دون مشاركة فعلية في النشاط الاقتصادي.

إخفاقات الحكومة تصب في صالح اليمين المتطرف

هذه التوجهات تضع الحكومة الائتلافية في مأزق سياسي، فبينما يرفع ميرتس شعار الإصلاحات وخفض الإنفاق الاجتماعي، يرفض شريكه في الائتلاف، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أي مساس بالضرائب أو الحقوق الاجتماعية المكتسبة. وزير المالية لارس كلينغبايل لم يستبعد رفع الضرائب لسد الفجوات المالية، وهو ما رفضه ميرتس قطعًا بقوله: «تحت حكومتي لن يكون هناك رفع لضريبة الدخل».

هذا الصدام العلني يعكس هشاشة التحالف الحاكم ويضعف ثقة الشارع، وجاءت استطلاعات الرأي الأخيرة لتؤكد أن 62% من الألمان غير راضين عن أداء الحكومة، بينما ارتفع مؤشر التأييد لحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني ليتفوق على الأحزاب التاريخية الألمانية لأول مرة، وهو مؤشر خطير على صعود التيارات الشعبوية في ظل الغضب الاجتماعي.

كثيرون يشككون في قدرة المستشار ميرتس على الإصلاح، ويرون أن النموذج الألماني يفقد مكانته في الاقتصاد العالمي. فبعد عقود من الاعتماد على الصناعة الثقيلة، خصوصًا صناعة السيارات، تواجه ألمانيا اليوم تحديات كبيرة في منافسة الصين والولايات المتحدة وتراجع الاستثمارات المحلية. كما أن أزمة الغاز بعد الحرب في أوكرانيا كشفت هشاشة البنية التي اعتمدت بشكل كبير على روسيا، وأدى ذلك إلى ارتفاع غير مسبوق في تكاليف الإنتاج، وهو ما عمّق الركود وضغط على الشركات العاملة في البلاد.

شعبية ميرتس في هبوط مستمر

المشهد العام يشير إلى أن ألمانيا تقف أمام خيارين صعبين: إما المضي في إصلاحات مؤلمة تقيد مزايا الدولة الاجتماعية وتدفع نحو سوق عمل أكثر صرامة، أو الاستمرار في الإنفاق المكلف الذي قد يقود إلى أزمة مالية أعمق. وفي كلا الحالتين سيكون الثمن السياسي باهظًا على الحكومة الحالية التي تعاني بالفعل من ضعف الشعبية.

ويرى محللون أن «خريف الإصلاحات» الذي يدعو إليه ميرتس وأصحاب العمل قد يكون الفرصة الأخيرة لإعادة الثقة، لكن في ظل التردد السياسي والانقسامات الحزبية، يظل الخوف قائمًا من أن يطول الانتظار بينما تتفاقم التحديات. وقد أبدى بعض وزراء الائتلاف بالفعل خشيتهم من أن يتم تأجيل الإصلاحات التي وعد بها ميرتس، وهو ما يعزز مصداقية الأصوات التي تتحدث عن غياب رؤية سياسية موحدة وإصلاحات جريئة.

اليوم لم تعد ألمانيا كما كانت قبل عقد واحد فقط. البطالة تتصاعد، الاقتصاد يفقد زخمه، والدولة الاجتماعية تتآكل تحت ضغط الأعباء المالية. والسؤال المفتوح هو: هل تستطيع حكومة ميرتس مواجهة هذا التحدي التاريخي، أم أن الانقسام السياسي والجمود البيروقراطي سيدفعان ألمانيا إلى فقدان أحد أهم مقومات قوتها واستقرارها؟

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان