زيارة الشرع إلى موسكو بين مطرقة القهر وسندان الضرورة

الرئيس السوري أحمد الشرع في موسكو! نعم، من كان يُكنى «بالجولاني» صار ضيفًا على الكرملين في قلب الساحة الحمراء وسط موسكو، إنها تصاريف الزمن!
آلاف الأسلحة الجديدة تمّ تجريبها في الشعب السوري، ما يزيد على مئة ألف طلعة جوية قُتل خلالها مئات الآلاف من السوريين، عشرات الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية وقّعها الروس مع النظام السابق، تفتقر إلى العدل ولا تصب في غير مصلحة الروس، بل وتسرق حقوق الشعب السوري. تصريحات علنية عدّة أطلقها لافروف يرفض فيها صراحة وصول «السنّة» إلى الحكم، حتى إنّ بوتين هدّد ذات يوم بقصف إدلب بالنووي، ولكن في نهاية المطاف ها هو بوتين يستقبل الرئيس السوري الجديد – المُهدّد سابقًا – استقبال الزعماء!
فكيف استقبل الشعب السوري أنباء هذه الزيارة؟ هل هي نصر ساحق ماحق كما رأى البعض؟ أم هي ضرورة سياسية واقتصادية وأمنية كما رأى آخرون؟
تضارب مواقف الشعب السوري من الزيارة
ذوو الضحايا من الشعب السوري استذكروا قتلاهم، وعبّروا عن قهرهم، وطرحوا فكرة الاستغناء التام عن هذه العلاقة مع هذه الدولة التي تحكمها مافيا لا تعرف غير المنفعة والمصلحة الخاصة، وتستسهل ارتكاب الجرائم والفظائع بالشعوب في سبيل حماية مصالحها. ذوو الضحايا محقون في التعبير عن ألمهم وقهرهم، خاصة وأنّ الجروح لا تزال مفتوحة، وأخبار اكتشاف المقابر الجماعية مازالت طازجة تتجدد كلّ حين.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4هل أصبحت عودة السوريين من ألمانيا حتمية؟
- list 2 of 4مصر وفلسطين بين احتلالين ومقاومتين
- list 3 of 4تفاكر.. مصطفى المرابط يناقش كتاب “الفيلسوف ابن ساعته”
- list 4 of 4الوطني والأيديولوجي في الديمقراطيات العربية
بالمقابل، تحدّث آخرون بعقلية عملية وواقعية أكثر، فوزن سوريا كدولة ما زال خفيفًا، واقتصادها لا يزال تحت رحمة مذكرات التفاهم، حتى إنها ما زالت إلى اليوم مهدّدة بالتقسيم في ظلّ ارتباطات الجنوب والشمال الشرقي بأجندات غير سورية، في حين تُعد روسيا واحدة من الدول العظمى في العالم، وتمتلك إلى جانب قدرتها العسكرية حقّ النقض «الفيتو» في مجلس الأمن، ومن هنا تأتي الضرورة. وما بين مطرقة القهر وسندان الضرورة لا يمتلك السوري متسعًا من الوقت، كما لا يمتلك أيضًا كثيرًا من الخيارات، وسيكون من الجيد حقًّا أن يستطيع الرئيس السوري النجاة بسوريا من هذا المأزق.
فهل ستصعد سوريا سلّم النمو والاستقرار كما صعد أحمد الشرع درجات سلّم الكرملين الطويل بخفة؟ لقد أخبر الشرع نظيره بوتين أنّ درجه طويل، وأخبره “إننا نلعب رياضة”. فهل المقصود بالرياضة هنا قدرة الشرع على التلاؤم والتواؤم بين المتطلبات الغربية والمتطلبات الروسية؟ لا شكّ أنّ الزيارة خطوة في سبيل ضمان بدء مرحلة الاستقرار عبر تجنّب حق النقض «الفيتو» الذي لا تزال سوريا تحتاجه، إلى جانب رفع العقوبات.
وإذا كان المواطن السوري باستذكاره لصفحات الألم والقهر ينظر إلى الماضي، فإنّ النظر إلى المستقبل يتطلّب الكثير من التعالي على الجراح في سبيل الاستقرار، والذي يبدأ أولًا بمناقشة كافة الاتفاقيات الاقتصادية ومراجعتها وتعديلها، بمعنى آخر يتطلّب بدء بناء علاقة تتسم ببعض التوازن بين البلدين، طالما أنه في السياسة لا يوجد عداء دائم ولا صداقة دائمة، والمعيار الأوحد هو مصلحة البلد فقط. ومن السذاجة وصف زيارة الرئيس للكرملين بالنصر المؤزر أو بالهزيمة النكراء، كما يحاول السوريون تصويرها كلٌّ من موقعه المستنكر أو المؤيد.
نتائج الزيارة
لقد عاد الشرع من موسكو، ولم يصدر عن الطرفين ما يفيد بتقدّمٍ مُعيّن أو اختراقٍ ما على أيّ صعيد من الصعد التي يأمل الطرف السوري بتحقيقها، فغلب على الزيارة طابع الرمزية والمجاملات الدبلوماسية وبعض الألعاب السياسية التي تستهوي بوتين، وإن كان الشرع قد أفسد عليه متعة لعبة الدرج الطويل. هذا إن لم يوقع الطرفان على اتفاقيات لم تخرج للإعلام الرسمي بشفافية. في العموم قد تعكس هذه النتائج ملمحًا إيجابيًا يصبّ في مصلحة استقلالية القرار السوري والتعامل بشيء من الندية الدولية.
الرهان على إعادة الإعمار
يبقى للشعب السوري أن ينتظر – على ما يبدو – مزيدًا من الوقت ريثما يمتلك القدرة على البدء بإعادة الإعمار وانطلاق المشاريع الاستثمارية التي ترتقي به قليلًا في سلّم الاقتصاد والتنمية. فمشكلة الجنوب الحالم بالقطيعة التامة مدعومًا من إسرائيل، والشمال الحالم بشكل حكم مختلف مستغلًا تذبذب القرار الأمريكي رغم التصريحات العلنية بضرورة وحدة الأرض السورية، هي مشكلة ما تزال تؤخر أيّ انطلاقة يمكن أن تبدأ. ويمكن لموسكو أن تسهم بشكل جيد في هذه الانطلاقة نتيجة علاقتها القديمة والاستراتيجية مع دمشق، لكن ليس حسب ما كان، وإنما برسم أطر جديدة تتوازن فيها المصلحة الخاصة لكلّ عاصمة، خاصة وأنّ حكومة الشرع تنتهج منذ أول يوم سياسة النأي عن الخصومة مع أيّ طرف، وتحاول التعاطي بواقعية مع كافة الأطراف، وذلك امتدادًا لسياسة «عفا الله عمّا مضى» والرغبة في بناء الدولة بطريقة تختلف في شكلها عن الدولة الأسدية البائدة.
أمّا الانطباع السائد والعام، والذي يبدو أنه الأكثر قربًا من الواقع، فهو أنّ موسكو اليوم غير مهتمة بأيّ دعم يحقّق للحكومة السورية انتقالًا سياسيًا سلسًا، وغير مهتمة بأيّ دعم يضمن تحولًا ديمقراطيًا للشعب السوري، وليست معنية بأيّ تنمية تصبّ في مصلحة الشعب السوري، ما يهمها فقط مصلحتها المافيوية التي بدت واضحة في دعمها اللامحدود لبشار الأسد، وهي تعلم تمامًا مدى إجرامه، بل وتعد شريكة أساسية في الجريمة الكبرى التي ألمّت بسوريا.
الرهان الأصعب
الرهان الأصعب هو على قابلية الشعب السوري للتغيير، وتقبّل المرحلة الجديدة بكلّ مشاكلها وصعوباتها، وهضم الاختلاف، والاقتتال، والصراع الطائفي، وإعادة إعمار الذات بإزالة آخر «خيمة» من النفوس المريضة التي تضع العصي في العجلات، وتمنع تقدّم الدولة، وتعرقل خطواتها في سبيل إثبات نظريات فاشلة، وأحلام تدميرية متكئة على اتهامات جاهزة بكون النظام الجديد إرهابيًّا يسعى إلى أسلمة الدولة وإقصاء باقي الطوائف والأطياف السياسية.
