سرقة القرن في قلب باريس
كيف اخترقت عصابة متحف اللوفر وهربت خلال دقائق؟

لم يكن صباح أول أمس (الأحد) عاديا في باريس، فقد استيقظت مدينة الأنوار وعاصمة الفن على خبر صادم هز العالم الثقافي والفني: سرقة جريئة في متحف اللوفر، استهدفت مجوهرات نادرة من المجموعة الملكية الفرنسية، وهي قطع فريدة تُعَد من أثمن مقتنيات المتحف لما تحمله من قيمة تاريخية ورمزية تمثل جانبا من الإرث الملكي الفرنسي.
بعد سماع خبر الحادثة، عمَّت الدهشة أروقة الثقافة والفن، فكيف يمكن اختراق صرح يُعَد من أكثر المتاحف حراسة في العالم؟ كيف تمكنت العصابة من التسلل إلى داخل اللوفر، متجاوزة كاميرات المراقبة وأنظمة الإنذار وحراس الأمن، والمغادرة في غضون دقائق كأنها جزء من مشهد سينمائي محكم الإخراج؟
حصيلة المسروقات والجرأة التي نُفذت بها العملية
تفاصيل الحادثة تكشف أن أربعة لصوص ملثمين تحركوا بخفة مدروسة وجرأة لافتة، مستغلين أعمال الصيانة الجارية في المتحف، ليتسللوا عبر الواجهة المطلة على نهر السين قرابة التاسعة والنصف صباحا، مستخدمين رافعة شوكية للوصول إلى قاعة مجوهرات معرض أبولو. ثم تمكنوا من كسر الزجاج الواقي باستخدام أدوات قطع كهربائية صغيرة قبل أن يلوذوا بالفرار على دراجات نارية، في عملية لم تستمر سوى دقائق معدودة.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4أوروبا على صفيح ساخن.. فضيحة فساد أوكرانيا تهز برلين وتربك زيلينسكي
- list 2 of 4الانتخابات في مرآة السينما: من بخيت وعديلة إلى رشدي الخيام!
- list 3 of 4كيف شكّلت إسرائيل شبكة من المثقفين المزورين؟!
- list 4 of 4من هولاكو إلى تل أبيب: إعادة إنتاج التوحش
تمكن المتحف من حصر المسروقات بدقة، إذ سُرقت ثماني قطع نادرة من المجوهرات الملكية الفرنسية، وخلَّف اللصوص وراءهم تاجا تالفا جزئيا هو القطعة التاسعة، وكأنهم أرادوا أن يتركوا توقيعهم الساخر.
لكن ما يثير الدهشة حقا ليس حجم المسروقات، بل الطريقة التي تمّت بها السرقة. كيف يمكن أن تقع مثل هذه الجريمة في وضح النهار، تحت أعين عشرات الكاميرات، وفي أكثر المتاحف حراسة في العالم؟ إنها مفارقة تدعو إلى التأمل.
فمتحف اللوفر، الذي يُعَد أيقونة للحضارة الإنسانية ووجهة لملايين الزوار كل عام، بدا فجأة هشا كأي مبنى عادي، يمكن اقتحامه والفرار منه في دقائق معدودة. والمسألة هنا لا تتعلق فقط بسرقة مجوهرات نادرة، بل بسرقة الثقة التي يضعها العالم في المؤسسات الثقافية الكبرى، التي يُفترض بها أن تكون حامية للذاكرة الإنسانية.
أشهر الحوادث التي هزت المتاحف العالمية
ليست هذه الحادثة الأولى من نوعها، بل تنضم إلى سلسلة من الجرائم التي استهدفت مؤسسات فنية وثقافية عبر التاريخ.
فمتحف اللوفر نفسه تعرَّض لأكثر من سرقة، أبرزها سرقة لوحة “الموناليزا” الشهيرة عام 1911، على يد فينتشينزو بيروجيا، العامل الإيطالي الذي عمل سابقا في متحف اللوفر، وكانت نقطة تحوُّل في وعي العالم بضرورة حماية الأعمال الفنية. كما شهد اللوفر في عام 1998 حادثة أخرى، تمثلت في سرقة لوحة “الطريق إلى سيفر” للفنان الفرنسي جان بابتيست كميل كورو، ولم تتم استعادتها حتى الآن.
لكن اللوفر لم يكن الاستثناء، فسرقات المتاحف أصبحت فصلا متكررا في تاريخ الفن العالمي. ففي عام 1990، تعرَّض متحف “إيزابيلا ستيوارت غاردنر” في بوسطن لما يُعَد أكبر سرقة فنية في التاريخ، حين تسلل رجلان متنكران بزي الشرطة إلى المتحف ليلا، وسرقا ثلاث عشرة لوحة من روائع فيرمير ورمبرانت وديغا، بلغت قيمتها أكثر من نصف مليار دولار، ولا تزال اللوحات مجهولة المصير.
وبحلول عام 2006، شهدت مدينة ريو دي جانيرو واحدة من أكثر السرقات الفنية جرأة في تاريخ أمريكا اللاتينية، حين اقتحم أربعة لصوص مسلحين متحف “شاكارا دو سيو” أثناء احتفالات الكرنفال الصاخبة، مستغلين الفوضى والحشود لتنفيذ خطتهم. لم تستمر العملية سوى نحو ثلاثين دقيقة، واستولى اللصوص على أربع لوحات نادرة لعمالقة الفن الحديث؛ بابلو بيكاسو وكلود مونيه وهنري ماتيس وسلفادور دالي.
ثم خرجوا من المتحف بهدوء لافت وسط الزحام، مستغلين الفوضى وعدم اليقظة أثناء الاحتفال، دون أن يلفتوا انتباه أحد. ومع مرور السنين، لم تُسترد أي من اللوحات المسروقة حتى اليوم.
لماذا تتكرر سرقات المتاحف بهذا الشكل؟
الجواب يكمن في طبيعة القطع نفسها، وفي البيئة التي تُعرض فيها. فالقيمة المادية الكبيرة، إلى جانب البعد الرمزي والتاريخي لكل لوحة أو قطعة مجوهرات، تجعلها هدفا مغريا للعابثين بالتراث. كذلك قد تنشأ نقاط ضعف مؤقتة بسبب أعمال الصيانة أو التجديد، أو استغلال ثغرات بشرية وتقنية غير مؤمَّنة بالشكل الكافي، مما يتيح للصوص، الذين يمتلكون الجرأة والمعرفة، التسلل إلى هذه التحف الفنية بكل سهولة.
لا يقتصر الخطر على ثغرات الحراسة فقط، فهناك أيضا سوق سوداء للفن والتحف، تجعل الأمور أكثر تعقيدا. في تلك الشبكات تُغيَّر هوية القطع أو تُقطع إلى أجزاء أو تُخبأ بعيدا، فتصبح عملية العثور عليها واستردادها صعبة للغاية، مما يجعل كل سرقة حدثا معقدا على المستويين الأمني والثقافي.
لذلك، لا يكفي وجود كاميرات وأنظمة إنذار؛ بل يتطلب الأمر نهجا متكاملا لحماية التراث. يشمل ذلك رفع مستوى التدريب الأمني للموظفين، والتحقق المستمر من خلفياتهم، وتعزيز الرقابة التقنية، والتعاون الدولي لتتبُّع القطع المسروقة. كما أن التوعية المجتمعية بدور كل فرد في الحفاظ على التراث تُعَد خط الدفاع الأخير أمام الطمع والسرقة. فكل لوحة أو قطعة محفوظة ليست مجرد ممتلكات، بل جزء من ذاكرة الإنسانية التي تقع على عاتقنا مسؤولية صونها وحمايتها.
قد تبدو سرقة مجوهرات من متحف عريق حدثا أمنيا استثنائيا، لكنها في جوهرها جرس إنذار ثقافي للعالم بأسره. فالقضية لم تعد مجرد اختراق لجدران الحجر والرقابة، بل اختراق لمنظومة ثقة افترضت أن الحضارة محصَّنة لمجرد أنها معروضة خلف زجاج المتاحف. ما حدث في اللوفر يعيد تشكيل السؤال الحقيقي: هل نحافظ على التراث لأنه مُؤمَّن جيدا، أم لأنه جزء من وعينا الجمعي الذي لا يُسمح بالمساس به؟
إن المتاحف لا تُحمى بالكاميرات وحدها، بل بوعي الشعوب بقيمة ما تخلّفه الحضارات. وعندما يصبح التراث مجرد مقتنيات تُعرض، لا ذاكرة تُحيا، فإن سرقته لا تكون خسارة لمتحف فحسب، بل شرخا في ذاكرة الإنسانية نفسها.
