مصر.. موسم الهجرة إلى التصوف!

يبدو أن التوجه الرسمي الديني في مصر هو الذهاب إلى التصوف، فهو بعيد عن السياسة والتشدد، ومناكفة الحكام، كما أنه يجذب ملايين الناس إليه، فهو دين فولكلوري أكثر منه التزامًا.
ظهر ذلك جليًا في الاهتمام بمولد السيد أحمد البدوي بمدينة طنطا في وسط دلتا مصر؛ حيث تبارت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي إلى التركيز على احتفالات مولد السيد البدوي الذي حضره مئات الآلاف من محبيه، ومن الطرق الصوفية المختلفة.
حيث ظهر وزير الأوقاف د. أسامة الأزهري، ومعه الدكتور علي جمعة، مفتي مصر الأسبق، ومعهم كبار العلماء، ومشايخ الطرق الصوفية في الاحتفالات، وظهر الشيخ علي جمعة ـوهو بالمناسبة شيخ طريقة صوفية اسمها «الصديقية الشاذلية»ـ وهو يردد مع المنتسبين للطرق الصوفية «يا بدوي جاب الأسرى» وهم يرددون وراءه، ويتمايلون على أنغام الكلمات وهو يبدو في قمة السعادة، وكأنه أحرز نصرًا على تيارات بعينها يكيد الرجل لها كيدًا.
80 طريقة صوفية و15 مليون مريد
ما حدث هذا العام وما قبله يؤكد أن هناك توجهًا لجذب الناس للتصوف، حتى يبتعدوا عن الجماعات الدينية التي لا ترضى عنها الدولة، فهذا إسلام بسيط ليست عليه تبعات أو مشاكل، من وجهة نظرهم.
بعيدًا عن رأيي في الصوفية والطرق الصوفية التي يبلغ عددها حوالي 80 طريقة، ويُقدر عدد مريديها 15 مليون مريد.
وبعيدًا عن رأينا، ورأي كثير من العلماء في السيد البدوي نفسه، وما كتب عنه من أمور غريبة وعجيبة؛ ولكن الصوفيين جعلوه قطب الأقطاب من بين مشايخ الصوفية، فإن ما يحدث في تلك الموالد بعيد جدًّا عن الإسلام، في رأي كثير من العلماء، وقد سئل شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية الأسبق، الشيخ حسن مأمون ـرحمه اللهـ عن حكم الشرع في زيارة أضرحة الأولياء، والطواف بالمقصورة، وتقبيلها، والتوسل بالأولياء، فأجاب إجابة طويلة مفصلة، مما جاء فيها: «إن التوسل بالأضرحة والموتى من مزالق الشرك بالله، وهي رواسب جاهلية، كما أن الطواف في الإسلام لم يُشرع إلا حول الكعبة الشريفة، وكل طواف حول أي مكان آخر حرام شرعًا، والتقبيل في الإسلام لم يُسن إلا للحجر الأسود، فتقبيل الأعتاب، أو نحاس الضريح، أو أي مكان به، حرام قطعًا».
والصوفية لها تأثير في الفرد والمجتمع، فقد قرأت في شبابي رواية «أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم، التي تتناول جانبًا عميقًا من التجربة الصوفية في الريف المصري، من خلال تصوير حياة فتى قروي يُدعى عبد العزيز ينشأ في بيئة يغلب عليها الطابع الصوفي، خصوصًا داخل زاوية الطريقة الأحمدية.
وتدور أحداث الرواية في قرية من دلتا مصر؛ حيث يتداخل الدين مع التصوف في تفاصيل الحياة اليومية، ويبرز فيها دور الزوايا الصوفية كمراكز روحية واجتماعية، لا تقتصر فقط على الذكر والعبادة؛ بل تمتد لتشمل تشكيل الوعي والهوية.
ومن خلال سرد دقيق ومكثف، توثق الرواية رحلة الفتى من التبعية إلى الوعي الذاتي، مستعرضةً كيف تؤثر المجالس الصوفية، وحلقات الذكر، والتجارب الروحية في تشكيل الإنسان القروي نفسيًّا واجتماعيًّا، كما تكشف الرواية عن المفارقة بين الإيمان الشعبي والتصوف الرسمي، موضحة كيف أصبح التصوف وسيلة للاتصال الروحي المباشر، في ظل فقر مادي، وقهر اجتماعي.
السياسة والتصوف
والحكام في مصر دائمًا يلجؤون للصوفية والأولياء كما يسمونهم؛ حيث يرونهم سلمًا للوصول لطائفة كبيرة من الشعب من خلال المحبين والمريدين، فهم -من وجهة نظرهم- لا يُخشى منهم، ولا يتحدثون في السياسة، وليست لهم مطامع في أي شيء، وكل صلتهم بالدين هي الذهاب للموالد والأضرحة؛ لكي يبثوا همومهم إليها، ويلقوا بالنذور في تلك الأضرحة.
وقد استخدمت السلطة في مصرالتصوف أداة لتعزيز شرعيتها، وقوة ناعمة؛ لمواجهة التحديات، وظهر هذا التحالف في عهد السلطان الظاهر بيبرس، حيث أدرك بيبرس -بعد معركة عين جالوت- القوة الروحية والشعبية الهائلة للطرق الصوفية، ممثلة في أقطاب، مثل السيد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، فقام بتوظيفها؛ لبناء شرعية سياسية بعد اغتياله السلطان المظفر قطز، فقرب شيوخ الصوفية، وبنى الزوايا، وأضفى عليها القداسة، فقابلوه بتخليده في الوجدان الشعبي عبر السيرة الشعبية التي نسجت له شرعية عربية وصوفية.
وعلى عكس بيبرس، جاء محمد علي ليمثل نقطة تحول، فقد عمل على كسر شوكة القوى التقليدية، بما فيها الطرق الصوفية، ليبني دولة مركزية حديثة، فسحب البساط من تحت أقدامهم بضم الأوقاف، وإنشاء بيروقراطية دولة؛ مما أنهى دورهم السياسي المباشر، وحول الصوفية إلى ممارسة شعبية أكثر منها قوة فاعلة.
السادات والبشارة من ضريح البدوي
أما الرئيس الراحل أنور السادات، فقد عمل على عودة البركة والشعبوية للطرق الصوفية؛ حيث أعاد إحياء نموذج بيبرس في العصر الحديث، فاستغل ارتباطه الشخصي والعاطفي بضريح السيد البدوي، وتلقي «البشارة» من الشيخ أحمد حجاب بأنه سيكون «خديوي مصر»، وهو مفصول من الجيش، واستخدم هذا الرصيد الصوفي؛ لتلميع صورته كزعيم مؤمن، وربط التصوف بالانتصار في حرب أكتوبر.
ومثل الشيخ محمد متولي الشعراوي التصوف الإعلامي الهادئ، والمقبول جماهيريًّا، ولم يكن أداة سياسية مباشرة للحاكم، لكنه سكن قلوب المصريين بخطابه الوجداني البسيط؛ مما أسهم في ترسيخ قبول التصوف ضمن الهوية الدينية المصرية دون حاجة إلى ترويج رسمي صارخ.
واليوم، يقدم وزير الأوقاف التصوف كإسلام وسطي رسمي، في مواجهة أيديولوجية التيارات السلفية والتكفيرية، وتحويله إلى خط دفاع أيديولوجي يوفر قاعدة شعبية للدولة، ليصبح التصوف خيطًا ناظمًا في النسيج الروحي والسياسي المصري، تتشكل علاقته بالسلطة بناءً على احتياجات كل عصر، من البركة إلى المواجهة الفكرية.
حين تقدم السلطة التصوف كبديل آمن للإسلام، فهي لا تبحث عن روحانية الناس بقدر ما تبحث عن طاعتهم؛ والتصوف الذي لا يوقظ الوعي قد يتحول من طريق إلى الله إلى طريق يعيد إنتاج الاستسلام.
