المصريون أولى بغزة.. ولا عزاء للمتصهينين!

مع تصاعد الدعوات للتبرعات الشعبية في مصر لإعادة تعمير غزة، ظهرت في المقابل عبر مواقع التواصل دعوة نشاز بعنوان «المصريين أولى» مع شرح بسيط «بلدنا أولى بكل جنيه، وبكل مجهود، قبل ما نعمر برة لازم نكمل عمارنا جوة».
هذه الدعوة النشاز تمثل تيارًا عنصريًا متصاعدًا في مصر بالتوازي مع صعود اليمين المتطرف عالميًا، وهذا التيار المتطرف المصري يقصر انتماءه على الفرعونية، رافضًا لأي انتماء عربي أو إسلامي لمصر، بل وصل به الحال إلى الزعم بأن الجنس المصري حامي وليس ساميًا، ما يؤكد انفصاله التام عن بقية الأشقاء العرب الذين ينتمون للسامية!
الموقف تجاه العدوان على غزة، وتاليًا إعمارها، هو موقف وطني جامع في مصر، تتقارب فيه مواقف السلطة مع القوى الشعبية المختلفة، ولا يشذ عن ذلك إلا هذه الأصوات النشاز التي ظهرت في السنوات القليلة الماضية، واستهدفت بسلوكياتها العدوانية المهاجرين السوريين والسودانيين في مصر، وتاليًا أهل غزة.
ورغم أن هذا التيار النخبوي، والذي يسمي نفسه، أو حتى يسمي مصر باسمها الفرعوني «كيميت»، ويوصف المنتسبون له بـ«الكيميتيين أو الكمايتة باللهجة الدارجة»، يعتبر نفسه داعمًا للسلطة الحالية، إلا أنه كان الوحيد الذي عارض علنًا دعوة السيسي في الندوة الثقافية للقوات المسلحة قبل ثلاثة أيام، والتي تضمنت حث المصريين على المساهمة الفاعلة في جهود إعمار قطاع غزة، تعبيرًا عن التضامن والمسؤولية والمحبة تجاه الأشقاء الفلسطينيين، وتكليفه لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي بالتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني والجهات الرسمية لدراسة إنشاء آلية وطنية لجمع هذه المساهمات والتبرعات الشعبية.
دعوة عنصرية مقيتة
هذه الدعوة العنصرية التي تريد عزل مصر عن محيطها العربي الإسلامي، وجدت غايتها مؤخرًا في لوحة خلال مؤتمر شرم الشيخ الأخير، حملت مسمى «جمهورية مصر» دون إضافة كلمة «العربية». واعتبرتها هذه المجموعة الكيميتية، والمدعومة أيضًا من قوى وشخصيات طائفية داخل مصر وخارجها، خطوة على طريق الانفكاك عن المحيط العربي، كما اعتبرتها انتصارًا لرؤيتها التي ينبغي أن تترجم عمليًا عبر تغيير المادة الأولى من الدستور التي حوت أول جملة فيها الاسم الرسمي للدولة (جمهورية مصر العربية).
هذا التيار يعد امتدادًا لتيار قديم في السياسة المصرية قاده المفكر الليبرالي أحمد لطفي السيد مطلع القرن العشرين، لكنه اندثر بفضل المد القومي العروبي، ومن بعده المد الإسلامي، لكنه عاد يطل برأسه مجددًا، مستغلًا التحولات السياسية والأزمة الاقتصادية التي يمر بها الشعب المصري لتحريضه على المهاجرين بزعم أنهم سبب للأزمة من ناحية، وبتحريضه للشعب على عدم التجاوب مع دعوات التبرع لغزة من جهة أخرى، بدعوى أن مصر وفقراء مصر أولى بهذه التبرعات!
متجاهلًا أن من سيتبرعون لغزة هم أنفسهم الذين يتبرعون للفقراء في مصر، والذين يساهمون دوما في أي نشاط خيري.
أصوات مصرية متصهينة
هذه الأصوات المتصهينة ذاتها هي التي حرضت الشعب المصري ضد المقاومة الفلسطينية، واتهمتها بأنها السبب في تدمير غزة، وأنها تريد جر مصر لمعركة لا ناقة لها فيها ولا جمل، وأنها تمثل خطرًا على الأمن القومي بشكل عام، لكن الشعب المصري لم يعرها اهتمامًا، وواصل تبرعاته الإغاثية التي مثلت الغالبية العظمى من جملة المساعدات التي وصلت إلى غزة خلال عامي الحرب.
كما أنه سيثبت مجددًا أنه رغم أزماته الاقتصادية، سيكون أكثر الشعوب العربية تبرعًا لإعمار غزة.
التضامن الشعبي المصري مع غزة بوجه خاص يستند إلى روابط عميقة، فغزة ظلت تحت الإدارة المصرية عقب نكبة 1948 وحتى حرب 1956 حيث احتلها الكيان لمدة أربعة أشهر، عادت بعدها إلى الإدارة المصرية حتى هزيمة يونيو 1967.
وطيلة تلك السنوات حدث قدر كبير من التمازج بين أهل غزة والشعب المصري، وحدثت مصاهرات كثيرة بين عائلات مصرية وغزاوية. ولأن لغزة حدودًا برية وحيدة مع مصر، فقد دفعها ذلك لمزيد من الارتباط التجاري والمعيشي بها، ولذا كانت العيون كلها تتجه إلى معبر رفح البري خلال عامي الحرب، حيث هو شريان الحياة الرئيسي، وقد تسبب إغلاقه في كارثة المجاعة لأهل القطاع، من هنا تصاعدت الضغوط لفتحه، واحتشدت الشاحنات على بوابته المصرية انتظارا لهذا الفتح الذي تم مؤخرًا بعد تطبيق خطة ترامب، وقد دخلت بالفعل مئات الشاحنات التي تحمل معونات مصرية وغير مصرية لأهل القطاع وفقًا لتلك الخطة، وإن عاد جيش الاحتلال لاستخدام المعبر كورقة ضغط على المقاومة بين الحين والآخر.
تبرعات الدول والشعوب
تستعد مصر الرسمية لاستضافة مؤتمر المانحين الدوليين لإعادة إعمار غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ومن المأمول أن تسهم الدول العربية، وخاصة الخليجية، بالنسبة الأكبر من تمويلات الإعمار التي قدرتها الأمم المتحدة بسبعين مليار دولار.
وقد يكون من المفيد توزيع محافظات ومدن ومخيمات القطاع على الدول المانحة بحيث تتولى كل دولة إعادة تعمير أحدها بالكامل، مع ترك أحياء في كل محافظة للتبرعات الشعبية التي ينبغي أن تنشط في كل الدول العربية والإسلامية أيضًا.
معركة تعمير غزة ستكون فرصة جديدة أمام الشعب المصري لتأكيد تضامنه مع أشقائه في القطاع، بعد جهوده السابقة في حملات الإغاثة وحملات المقاطعة لمنتجات الشركات العالمية الداعمة للكيان.
ورغم الأزمة الاقتصادية الخانقة فإننا ننتظر تنافسًا بين هيئات المجتمع المدني من نقابات مهنية وعمالية، وجمعيات خيرية، وجمعيات رجال أعمال، وأحزاب سياسية لجمع التبرعات الممكنة، وستكون هذه الحملات رسالة تضامن قوية جديدة مع أهل غزة، ولا عزاء للمتصهينين والمطبعين المصريين.
