شيء من الخوف.. «ليكن للموت ثمن»

في صناعة الأفلام الكبيرة في السينما، يظل الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة والمشاهد الصغيرة، حتى لو كانت تمهيدية للقصة الرئيسة، عاملًا مهمًّا في تأكيد رواية الفيلم، بل تصبح تلك المشاهد هي الأعمدة الرئيسة التي تقوم عليها الأحداث الكبيرة في الحدث الدرامي. ومن المعلوم أن فيلم «شيء من الخوف» المنتج عام 1969، عن قصة ثروت أباظة، وسيناريو صبري عزت، وحوار عبد الرحمن الأبنودي وصبري عزت، وإخراج حسين كمال، واحد من أهم أيقونات السينما المصرية، ويظل علامة في الإنتاج السينمائي أيضًا بما يطرحه دائمًا من رموز عند الكثير من مشاهدي السينما كلما أطلّ علينا الفيلم على شاشة التلفزيون، أو أخذ أحدنا الحنين إليه.
أيقونة الأبنودي وحسين كمال
الكثير من متابعي السينما ينجذبون دائمًا إلى القصة الرئيسة التي تتمثل في علاقة عتريس مع أهل الدهاشنة، وعلاقته مع فؤادة؛ قصة الحب التي لم تكتمل بين البراءة ومصاص الدماء القاتل، زعيم العصابة، والتحول الكبير في شخصية عتريس الحفيد الذي نشأ في حضن البراءة والنقاء، وانتهى به المقام قاتلًا متجبرًا على أهل قريته وحبيبته «فؤادة». وتناولت أقلام النقاد الرموز التي يشير إليها الفيلم، حتى وصل الموضوع إلى ترميز عتريس بالزعيم جمال عبد الناصر، وما أثير عن قصة منع الفيلم، ومهادنة عبد الناصر له والسماح بعرضه. وبين الحين والآخر يقدم لنا أحد النقاد أو المهتمين قراءة جديدة لتلك الرموز مع تجدد الأحداث في مصر والمنطقة العربية. وهكذا يظل الفن الصادق خالدًا بتجدد دلالاته مع الأيام والأحداث.
الإشارة إلى الأدوار الكبيرة كانت الشغل الشاغل لمعظم من تناولوا الفيلم، خاصة في وجود ممثلين كبار في العمل على رأسهم محمود مرسي، والفنانة الكبيرة شادية «صوت مصر»، ويحيى شاهين، وأصحاب الأدوار الثانوية في الفيلم مثل محمد توفيق، وصلاح نظمي، وآمال زايد، وفي وجود شباب مثل حسن السبكي، ومحمود ياسين، وبوسي. وبنص الحوار الرائع الذي كتبه شاعر العامية الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وكذلك موسيقى بليغ حمدي، يمكن أن نقول إن الأبنودي وبليغ نقلا الفيلم إلى مقام الأسطورة الشعبية التي تتجدد بمرور الزمن، ليصبح «شيء من الخوف» أسطورة لا تختفي، في صيغة سينمائية مثلها مثل فيلم «الأرض» ليوسف شاهين.
عصيان ضد الهيمنة
الفيلم من مشهده الأول يقدم لك لوحة تمهيدية قوية جدًّا، بل إنك تجد الفيلم يهيمن عليك وعلى الواقع المعيش في آنٍ واحد (وربما الواقع الحالي). يبدأ الفيلم بقتيل في ترعة الدهاشنة، يسحبه أحدهم إلى الشاطئ، ليتساءل الجميع عن القتيل (شعلان) والقاتل؟ وهنا تتوجه الإشارة إلى آلة القتل الوحيدة في الدهاشنة؛ عتريس وعصابته. القتيل رفض الخضوع لسطوة وقوة عتريس في دفع الإتاوة التي يفرضها على أهل القرية جميعًا، يرفض شعلان الامتثال لعتريس ويقاوم هذه الهيمنة، فيلجأ عتريس إلى قتله للحفاظ على سطوته وقوته في القرية حتى لا يجرؤ أحد بعده على الكلام.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4أوروبا على صفيح ساخن.. فضيحة فساد أوكرانيا تهز برلين وتربك زيلينسكي
- list 2 of 4الانتخابات في مرآة السينما: من بخيت وعديلة إلى رشدي الخيام!
- list 3 of 4كيف شكّلت إسرائيل شبكة من المثقفين المزورين؟!
- list 4 of 4من هولاكو إلى تل أبيب: إعادة إنتاج التوحش
ينتقل المشهد إلى منزل عتريس لنكتشف أن لسالم شقيقًا هو شعلان، ويتساءل إسماعيل العصفوري رجل عتريس ويده الباطشة في القرية: لماذا لم يقتلوا شعلان ويخلصوا من المقاومين لفرض الإتاوة؟ يرد عتريس: «لما نقتل شعلان مين يدفع الإتاوة؟» هنا عتريس لا يهمه سوى الإتاوة التي يفرضها، فيبقي على شعلان لدفع الإتاوة التي تعني الهيمنة وعدم تمكّن أحد من الرفض في الدهاشنة (القرية)، ويمضي عتريس قائلًا: «شيء من الخوف ما يأذيش».
المشاهد الصغيرة تصنع أفلامًا كبيرة
لا نزال في المشاهد التمهيدية للفيلم الذي اهتم فيه حسين كمال بكل تفاصيله، فلم يُهمل شيئًا. والواقع أن الفيلم، وهو الثالث لحسين كمال بعد «المستحيل» و«البوسطجي»، كان يبشر بمخرج له بصمة مهمة في السينما المصرية. لكن ما كان يُقدَّم في الستينيات اختلف تمامًا عما جاء بعدها. ينتقل كمال مع عتريس إلى عزاء سالم القتيل، وبمجرد دخوله إلى السرادق يخرج مجموعة من الموجودين في العزاء، ويلاحظ أن أغلب الخارجين من الشباب، وتلك إشارة أخرى من كمال، فالجيل القادم لا يحتمل عتريس ولا يرضى عنه، ويتركون المكان الذي يحلّ فيه.
هذا الجيل الجديد يمثله في الفيلم «علي» الذي أدّى دوره الوجه الجديد آنذاك محمود ياسين، و«محمود» ابن الشيخ إبراهيم، الذي أدّى دوره الفنان حسن السبكي الممثل ومصمم رقصات الفنون الشعبية، وهؤلاء يقودون حملات التمرد على عتريس طوال الأحداث من الحقول والمسجد، ويتناولون كل الأحداث بالنقاش والتحليل، وكان مقتل محمود ابن الشيخ إبراهيم هو الفتيل الأخير في نهاية عتريس الحفيد، لا عتريس الجد الذي يوجد الآن في عزاء شعلان بجوار سالم.
سالم يتطلع إلى أهل القرية من الكبار الذين استمروا في العزاء، معطيًا نصف جسده لعتريس، والنصف الآخر لأهل قريته. الصمت يخيم على الجميع. عتريس يقدم له واجب العزاء ويشير إلى أنه أصبح الملتزم بدفع الإتاوة. هنا يفرض عتريس بجبروته وقوته، وباستخدام صوته الجهوري، أنه من قتل شعلان، ولا مفر أمام سالم من دفع الإتاوة. ينتفض شعلان: «ما كفاش دم سالم! أيه، تقتلوا القتيل وتمشوا في جنازته؟» يرد عتريس: «القوة تتكلم» وفي خلفيتها أدواتها؛ لقطة تجمع عتريس برجاله في كادر سينمائي واحد «وجنازة أخوه وحياتك».
بحث عن مقاوم
يعود شعلان ليتطلع إلى أهل قريته، يتفحص الوجوه بعيون حائرة تبحث عن مساند ومساعد، وعتريس ينظر إليهم ويتساءل: «بتدور على مين فيهم؟ أدي شعلان، ودي الدهاشنة، وأنا عتريس». شعلان يزداد اشتعالًا ويصرخ: «كفر ميت.. كفر أرانب!» فيرد عتريس: «كفر موزون.. كفر عاقل وحكيم.. شيء من الخوف ما يأذيش». مرة أخرى تهديد بالقوة وبصناعة الخوف على المنازل، النساء، والأطفال. الخوف يحمي من الدمار والحرق.
مشهد مكتوب بعناية شديدة في حوار من أربع جمل كاملة أخذ من زمن الفيلم ما يقارب دقيقة، فيه الجبروت متمثلًا في عتريس، والمقاوم متمثلًا في شعلان الذي يواجه، والشباب الذين لا يريدون عتريس ويرفضون حتى النظر إليه، ثم باقي القرية الذين يفضلون الاستسلام لقوة وجبروت عتريس حماية لهم وذويهم من الدمار والقتل والحرق. الفرقة الأخيرة فيها كبار البلد من الأهالي، شيخ البلد، شيوخ الدين ما عدا الشيخ إبراهيم إمام المسجد (الذي سيقود الانتفاضة على عتريس بعد ذلك)، وأصحاب الثروات الذين يخافون عليها من بطش عتريس.
شعلان يبحث عن مساند له في مواجهة عتريس وقوته، لا يجد، حتى الرافضين للهيمنة من الشباب انسحبوا الآن، ومن بقي من أهل القرية استسلموا وطأطؤوا الرؤوس وأدوا واجب العزاء وذهبوا إلى منازلهم. المواجهة صفرية بين شعلان صاحب الشخصية الثانوية جدًّا في فيلم حسين كمال الأيقوني، وعتريس البطل الرئيس في دور الجد والحفيد المهيمن والمسيطر على الجميع. ماذا يفعل شعلان؟ فهو حال رفضه الخضوع والهيمنة ودفع الإتاوة لعتريس مصيره طلقة رصاص بخمس قروش، وإذا خضع لعتريس فقد نفسه ومستقبل أولاده، فصاحب الكرامة إذا أذلها مات. إذن شعلان في كل الأحوال ميت، فليكن للموت ثمن.
أبطال خارج الأفيش
بحثت عن اسم الممثل الذي أدّى دور شعلان في فيلم «شيء من الخوف» فلم أجد اسمه في أي مصدر، ورغم مشاهدات سينمائية كثيرة لم أتعرف عليه. قدّم هذا الممثل في الفيلم مشهدين، كان المشهد الثاني هو مشهد قتله لعتريس الجد، لم يكن أمام شعلان إلا أن يأخذ بثأر شقيقه سالم من عتريس، وهنا تجدر الإشارة إلى اسم القتيل «سالم» ومشتقاته (سالم، سلام، استسلام، مسالم). هذا المشهد الأخير له تداعياته في الفيلم، فقد كان نقطة تحول عتريس الحفيد الذي وعد فؤادة بأنه لن يكون مثل جده، وقالت له فؤادة: «الدم بيني وبينك يا عتريس». فكان مقتل الجد وإصراره على عتريس بفعل شعلان أكبر نقاط التحول في الفيلم.
من أهم ملامح فيلم «شيء من الخوف» هو اهتمام المخرج حسين كمال بالأدوار الثانوية، وظهر ذلك في الأدوار التي قدّمها محمد توفيق (والد فؤادة)، وآمال زايد الأم، وأحمد توفيق في دور رشدي، وهو الدور الذي يستحق توقفًا وتأملًا في مشاهده، وحسن السبكي، ومحمود ابن الشيخ إبراهيم، وصلاح نظمي «إسماعيل العصفوري»، والفنانة بوسي في أول ظهور لها (عروس محمود). وقد استطاع المبدع الكبير عبد الرحمن الأبنودي بحواره صناعة مشاهد لأصحاب الأدوار الثانوية جعلت من كل مشهد في الفيلم رسالة فكرية وثقافية كبيرة. وهكذا في صناعة الأفلام السينمائية الكبيرة لكل لقطة وجملة رسالة.
