بعد الصفقة الأخيرة.. ما مصير بقية الأسرى الفلسطينيين؟

مسيرة تضامن مع الفلسطينين في شيكاغو في أغسطس الماضي ترفع لافتة تطالب بالإفراج عن مروان البرغوثي، الذي تستبعده إسرائيل في كل صفقة (الأناضول)

في صفقة التبادل الأخيرة، أُفرج الاحتلال الإسرائيلي، مرغمًا، عن 1968 معتقلًا فلسطينيًا، لكن هذا الإفراج الجزئي لا يخفف من الغصة في قلوب آلاف العائلات التي لا تزال تنتظر أحبّاءها خلف القضبان. أكثر من 9 آلاف أسير يقبعون في زنزانات الاحتلال، بينهم نساء وأطفال، وأكثر من 3 آلاف معتقل إداري محتجزون بلا أي محاكمة، إضافة إلى آخرين يواجهون الإخفاء القسري، وسط صمت الكيان عن أعدادهم الحقيقية.

إلى جانب تلك الغصة لعدم تصفير السجون الإسرائيلية من المعتقلين الفلسطينيين، هناك غصة أخرى جعلت فرحة خروج الأسرى ممزوجة بالأسى، ليس فقط لإصرار العدو على إبعاد 250 محكومًا بالمؤبد خارج فلسطين (وتلك قصة أخرى)، وإنما لحال من خرجوا مبتوري الأطراف أو مصابين بأمراض مستعصية، وأغلبهم هياكل عظمية من شدة التجويع والتعذيب.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

وحتى يكمل العدو مهمته بالتنغيص على الفرحة المنقوصة أساسًا، لم يتأخر في إرسال عشرات الجثامين لشهداء معظمهم مجهولو الهوية، قُتلوا وأُعدموا بدم بارد، ولا يُعرف هل كانوا أسرى منذ سنوات طويلة، أم تم اختطافهم من غزة أو الضفة الغربية بعد طوفان الأقصى. لكن ما يجمعهم هو أنهم قُتلوا تحت التعذيب وبوحشية، بعضهم فُرغت أحشاؤهم. تلك الأسباب مجتمعة تجعل أي فلسطيني اليوم ينظر إلى المشهد وكأنه جزء من مسلسل مستمر للتنكيل بالأحياء والأموات من أصحاب الأرض.

لم يكتفِ الاحتلال بذلك، فأثناء عملية التبادل، سارع إلى اعتقال نحو سبعين فلسطينيًا من الضفة الغربية وما زالت الاعتقالات مستمرة – وفقًا لما ذكره نادي الأسير الفلسطيني – وكأن الآلة الأمنية الإسرائيلية لا تعرف التوقف، والسجون لديها لا تحتمل الفراغ، أو كأنها خُلقت لتبقى ممتلئة بالفلسطينيين دائمًا.

لا يمكن وصف الألم الذي يعتصر قلوب الفلسطينيين على مصير من تبقّى من أقاربهم في السجون، أو من يُعتقل يوميًا في الأراضي المحتلة ويُلقى بهم داخل «مسالخ» الاحتلال، حيث تُستباح الكرامة الإنسانية لحظة بعد لحظة، بعيدًا عن أعين الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان.

ومن هنا ينبع التساؤل المشروع لدى ذوي الأسرى والحركة الأسيرة: هل تلاشت فرصة الإفراج عن البقية؟ وهل يمكن اعتبار هذه الصفقة الأخيرة؟ خصوصًا بعد أن سلّمت حماس كامل الأسرى الإسرائيليين لديها، ما قد يضعف قدرتها على إنجاز صفقة تبادل جديدة في المستقبل، ويجعل الأمل بالإفراج عن بقية الأسرى رهينًا بظروف سياسية وربما معارك مقبلة.

المستثنون من الصفقة

جدة الأسيرين حكيم وأمجد عواد، المحكومين بالمؤبد منذ عام 2011، تعيش هذا السؤال يوميًا. تقول لأحد الصحفيين خلال حضورها استقبال الأسرى في رام الله، بصوت يختزل جميع أصوات أهالي من لم يفقدوا الأمل بخروج أقاربهم: «كل الأسرى أولادي… الله يرضى عليهم»، وهي تحتضن أسرى محررين لا تعرفهم، وبذلك تشارك فرحتهم رغم ألمها العميق على أحفادها الذين ما زالوا خلف القضبان. ففي كل مرة يُحرر معتقلون، تذهب إلى هناك بحثًا عنهم، وتعود بخيبة أمل.

وقصة هذه الجدة ليست استثناءً، بل صورة تختزل معاناة آلاف العائلات التي لا تزال تنتظر، فهناك أسرى يستثنيهم الكيان في كل صفقة تبادل، رغم إصرار حماس على شمولهم بالقوائم. إذ استبعد الاحتلال في الدفعة الأخيرة قيادات فلسطينية رمزية مثل مروان البرغوثي، أحمد سعدات، حسان سلامة، وغيرهم.

تحليل لصحيفة «فايننشال تايمز» أوضح أسباب هذا التعنت، مؤكدًا أن إسرائيل تخشى من تحول سياسي شامل إذا أُفرج عن البرغوثي وغيره من الرموز الوطنية الفلسطينية، فالبرغوثي تحديدًا، يعتقد الكيان بأنه القادر على توحيد الفلسطينيين وتجاوز الانقسام الداخلي.

تغذية الانقسام الفلسطيني

ولعل التصريحات المتكررة التي أطلقها عدد من عصابات اليمين الإسرائيلي المتطرف بشأن مروان البرغوثي، تكشف أنه ليس مجرد أسير، بل خط أحمر، تحرسه الحسابات السياسية أكثر مما تحرسه الجدران الحديدية.

فعلى مدى أربع صفقات لتبادل الأسرى، ورغم إصرار حركة حماس على إدراج اسمه في قوائم الإفراج، ظلّ البرغوثي خارج أي صفقة، وكأن إسرائيل تخشى من صوته أكثر مما تخشى من سلاحه. فالإفراج عنه، في نظرها، جريمة بحق استراتيجية إبقاء الانقسام الفلسطيني حيًّا يُرزق، وتغذيته كلما أوشكت نيرانه على الخمود.

لا شك أن الصفقة الأخيرة لتبادل الأسرى تكشف بوضوح هذا المنطق الانتقائي الذي يتبعه الاحتلال في التعامل مع هذا الملف، إذ يصر على الإبقاء على قادة الرأي والميدان، مصممًا على احتكار قرار الإفراج. ومع غياب أسماء مثل البرغوثي وسعدات وغيرهم، يبقى ملف الأسرى مسرحًا لواحدة من أهم المعارك بين الاحتلال والشعب الفلسطيني.

شهادات لأسرى محررين تؤكد أن المعتقلين المستثنين من الصفقة يعيشون عزلة كاملة مع ظروف السجن الكارثية، حيث يتعرضون للضرب والتنكيل، بمن فيهم المرضى وكبار السن، على يد وحدة «النحشون» الإسرائيلية، تلك الوحدة التي تُعرف بالقسوة الشديدة على الأسرى، وتستخدم الضغط النفسي والجسدي، خصوصًا مع من يُعرف عنهم مقاومة أو رفض الانصياع، ما يجعل حياتهم داخل السجن مأساوية.

قضية مركزية

مع ذلك، لم يمت الأمل تمامًا، إذ يظل الحضور الشعبي لقادة مثل البرغوثي وسعدات قائمًا رغم بقائهم خلف القضبان، حيث يبقون ركائز أساسية وأوراقًا مركزية في أي تسوية مستقبلية.

والتاريخ مليء بقادة تحرروا رغم استحالة الظروف، من نيلسون مانديلا إلى رموز الحركة الوطنية الفلسطينية الذين حوّلوا الأسر إلى عنوان للنضال.

الصفقة الأخيرة نفسها، التي شملت أسرى محكومين بالمؤبد مثل محمود العارضة مهندس «نفق الحرية»، تذكّر بأنّ الحرية ممكنة، وأن المعارك على قضية الأسرى قد تفتح الأبواب أمام صفقات جديدة تغيّر المعادلة.

وكما أن جدة الأسيرين محمود وحكيم عودة ما زالت تأتي في كل صفقة تبادل باحثة عن أحفادها، سيظل الأمل متجذرًا في قلوب الفلسطينيين بأن يأتي اليوم الذي يُفرج فيه عن جميع أسراهم.

في الحقيقة، لا أحد يملك إجابات واضحة حول خيارات حماس وبقية فصائل المقاومة تجاه آلاف الأسرى الباقين. فالهدنة الحالية لم تظهر آثارها بعد، ومن الصعوبة حاليًا خلق فرص جديدة للتفاوض على ملف الأسرى، خصوصًا مع تركيز الفصائل على تثبيت وقف الحرب، إدخال المساعدات، وضمان الانسحاب الإسرائيلي من القطاع. ومع ذلك، يبقى الثابت أن قضية الأسرى ستظل مركزية في الوعي الفلسطيني، لا تسقط بالتقادم، ولا تُغلق بصفقة واحدة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان