غزة: إما الدولة وإما المهانة

غزة، حين تصحو الكرامة من تحت الأنقاض (رويترز)

المأساة المستمرة في غزة ليست مجرد كارثة إنسانية في رقعة جغرافية محددة، بل هي اختبار تاريخي لتوازنات القوى العالمية ولضمير الإنسانية جمعاء.
كتابة هذا المقال محاولة للحفاظ على صفاء العقل وسط فيضان العاطفة، لأن غزة ليست مجرد مكان، بل مرآة تمتحن فيها الإنسانية كرامتها وشرفها وسعيها نحو العدالة. الغاية من هذه السطور هي تناول قضية غزة بأبعادها التاريخية والسياسية والأخلاقية، مع التأكيد على أن الطريق الوحيد للحل هو الاحتكام إلى «عقل الدولة». سنحاول معالجة المسألة بمنهج يجمع عناصرها ويفصلها عما سواها، بعيدًا عن الأيديولوجيات والانفعالات.

غزة: أزمة الحداثة لإرثٍ قديم

بحسب ما ورد في التوراة، حين بُشِّر النبي إبراهيم عليه السلام بولد، وعده الله بأن يجعل نسله «كعدد نجوم السماء» (سفر التكوين 22:‏17-18). وفي ظل هذا الوعد، كان سؤال السيدة سارة: «لمن تكون الأوّلوية؟» ليس خلافًا عائليًا بسيطًا، بل بداية إشكالٍ امتدّ عبر خمسة آلاف عام من تاريخ الشرق الأوسط: من هو الوارث الحقيقي لإبراهيم؟
يعتقد اليهود أن البكورية لإسماعيل عليه السلام، لكن كونه ابن هاجر جعل القضية تتحول إلى أزمة «نسب» و«أحقية». ومن تلك اللحظة بدأ صراع الوارث الذي امتد من أرض كنعان إلى الشرق الأوسط الحديث.
والجواب، في ميزان من تحرر من الأيديولوجيا، واضح: وريث إبراهيم ليس من يتحدر من دمه أو عرقه، بل من يحمل رسالته في التوحيد. فالموحد في أقصى الصين أقرب إلى إبراهيم من أقرب الناس إليه نسبًا إذا انحرف عن رسالته. ومن هنا، لا يمكن فهم غزة من دون إدراك هذا المعنى، لأنها ليست أرضًا فقط، بل ميدانًا لفكرةٍ وصراعٍ ووجودٍ معنوي.

غزة: الحقيقة التاريخية والسرد المحرَّف

أرض فلسطين احتضنت عبر العصور حضارات كثيرة. وإذا تجاوزنا خرافة «الأرض الموعودة»، نجد أن حكم المسلمين لهذه الأرض دام أكثر من 1191 عامًا. وهذه الحقيقة التاريخية تكشف بوضوح من يملك شرعية الدولة.
وخلال فترات الحكم الإسلامي عاش اليهود أزهر عصورهم من حيث الحرية والكرامة، ما يعني أن القضية ليست دينية، بل سياسية – قضية استعمارٍ يختبئ وراء خطاب ديني.
إن سردية «الأرض الموعودة» تتناقض مع حقائق التاريخ، وهي محاولة يائسة لتبرير احتلال لا سند له إلا في الأساطير. ولهذا، فإن أي قراءة منصفة لغزة يجب أن تنطلق من هذه الحقيقة.

غزة: امتحان كرامة الإنسان

ما يحدث في غزة اليوم هو حلقة جديدة من سلسلة إبادة تهز الضمير الإنساني. والتعبيرات مثل «فقدت الإنسانية في غزة» أو «يحدث في غزة فظائع» صحيحة، لكنها لا تضيف جديدًا. فغزة تكشف الوجه الحقيقي للرأسمالية المتوحشة وللسياسات الإمبريالية التي تحكم العالم.
قال علي عزت بيغوفيتش بعد مذبحة سربرنيتسا: «لم أتوقع أن أرى هذا الوحش في قلب أوروبا»، وكان هذا خطأه الوحيد، لأن الجرائم الغربية لم تبدأ هناك. من مجازر فرنسا في الجزائر إلى فظائع البرتغاليين في إفريقيا، كلها تكشف أن ما جرى في غزة لم يكن مفاجئًا. وكما قال الشاعر التركي إسماعيل أوزل: «حقوق الإنسان اختراع لضمان راحة اليهود»، فقد كان ما نراه اليوم متوقعًا.
غزة ليست مأساة غير متوقعة، بل تكرار دموي لحقيقة قديمة. لذا، لا نحتاج إلى مديح للمقاومة بقدر ما نحتاج إلى قراءة جوهر القضية: أن تكون غزة ميدانًا لإحياء الكرامة، لا مقبرتها.

غزة: توازنات القوى ونظرية الأخطبوط

عندما شنت حماس هجماتها في 7 أكتوبر 2023 وردت إسرائيل بردٍّ مفرط القوة، اختلّت موازين المنطقة. اتبعت إسرائيل ما تسميه «نظرية الأخطبوط» التي تهدف إلى قطع أذرع «الهلال الشيعي» الممتد من حزب الله في لبنان إلى إيران وسوريا واليمن.
لكن النتيجة كانت عكسية؛ فمجازر غزة لم تضرب صورة إسرائيل فقط، بل وضعت الجاليات اليهودية في العالم أمام خطرٍ وجودي. فقد دمّر نتنياهو بإجرامه الصورة التي بُنيت بعد الهولوكوست لليهود كضحايا، ودفع بإسرائيل إلى أزمة شرعية عميقة.
هذا المشهد أشبه بفخٍّ خفيٍّ صُمّم بعقلٍ أكبر. فالمجازر في غزة أطلقت موجة غضب عالمية غير مسبوقة، وإذا لم تتحول إلى عداء لليهود كدين، فإنها ستُعمّق أزمة إسرائيل حتى نهايتها. إنها بداية مرحلة الانهيار.

غزة: صعوبة الصبر وقرب الخلاص

الدول لا تبلغ أهدافها دائمًا بالركض؛ أحيانًا تمشي ببطء، وأحيانًا تزحف. والتاريخ يقدم مثالين بارزين:
الأول قديم – العباسيون الذين احتاجوا لأكثر من خمسين عامًا وثلاثة أجيال ليؤسسوا دولتهم.
والثاني حديث – أذربيجان التي صبرت أربعين عامًا حتى استعادت أراضيها من الاحتلال الأرميني بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
العقل الذي قاد تلك المعارك هو «عقل الدولة»، لا «عقل التنظيم». إنه العقل الذي يخطط على المدى الطويل. اليوم نرى هذا العقل يعمل في سوريا، كما عمل في القوقاز.
ويُعزّز ابن خلدون هذا الفهم في نظريته عن العصبية، حين يقول: «لا قيام لأمة إلا بوحدة أبنائها». فإسرائيل، بسعيها لضرب الهلال الشيعي، وحّدت خصومها. والاعتداءات التي طالت قطر دفعت دول الخليج وباكستان نحو تعاون أمني أوسع، بينما التقارب بين مصر وتركيا يبشّر بتوازن جديد في المنطقة. إنها ولادة صعبة، لكنها تبشر بالسلامة.

 نحو مستقبل بعقل الدولة

حلّ قضية غزة وفلسطين لن يأتي بعقل التنظيمات، بل بعقل الدولة. هذا العقل يتسم بالصبر، والانضباط، والتخطيط الطويل الأمد. والتاريخ يثبت أن من يسير خلف هذا العقل يبلغ مراده في النهاية.
غزة ليست نهاية الكرامة، بل بداية نهضتها. تحويل هذا الأمل إلى واقع يتطلب من دول المنطقة أن تتحد بروح العصبية الإيجابية التي تحدث عنها ابن خلدون، وأن تعمل بعقل الدولة لا بالعاطفة. أما البديل فهو مزيد من الدماء والدموع والفوضى.
غزة تذكّرنا دومًا أن الصبر صعب، لكن الخلاص قريب.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان