هل تنكسر «عقيدة» المقاومة؟

الحرب على غزة انتهت.. أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرارا منذ التوقيع في شرم الشيخ على خطته للسلام.
سكتت المدافع إذن توقفت -ولو مؤقتا- المجازر والمحارق بحق سكان القطاع (2.2 مليون نسمة). بعدما بلغ عدد الضحايا 74 ألف شهيد ومفقود، بينهم 20 ألف طفل و170 ألف مصاب بجراح وعاهات متنوعة. وعاش الناجون ويلات هذه الحرب الموغلة في التوحش تجربة إنسانية دامية شديدة القسوة طوال 700 يوم. كابدوا الترويع بالنار والصدمات على مدار الساعة: قصفا وذبحا وحرقا وفقدانا للأهل والعشيرة وفلذات الأكباد والأصدقاء الذين اختطفهم الموت أمام أعينهم. وتحملوا آلاما فظيعة وعذابا لفراق الأحبة ومشاق الحياة وسط رائحة الموت والأشلاء وبين الركام والأطلال وخيام لا تمنع شمسا حارقة ولا بردا قارسا في ليالي الشتاء الباردة.
فكرة المقاومة والردع
بعيدا عن الأهداف المعلنة للحرب الإسرائيلية على غزة التي لم تتحقق عسكريا (تحرير الأسرى بالقوة وتدمير حركة حماس ومحوها) وخطة التهجير التي فشلت، فإن هناك أهدافا إسرائيلية خفية تتمثل في كسر وتحطيم نموذج غزة المقاوم وإنتاج جيل فلسطيني محبط مشرد منكسر الإرادة. أي محو فكرة ونهج «المقاومة» تماما كعقيدة، وليس مجرد الوجود المادي لـ(حماس)، لتكون غزة خاضعة دون إرادة.
سبق لإسرائيل احتلال القطاع منذ عام 1967 وحتى انسحابها عام 2005 بفعل المقاومة المسلحة. ومنذ ذلك الحين وهي تحاصر القطاع وشنت عليه أربعة حروب سابقة (2008 و2012 و2014 و2021) ولم تفلح في القضاء على المقاومة، كما أن الحصار والحروب الأربعة السابقة لم تمنع فصائل المقاومة من تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” في (7/10/2023) التي أحالت الهيبة الإسرائيلية سرابا والردع ذبيحا على أعتاب غزة. فهل نجحت إسرائيل في أطول حرب لها على غزة، التي امتدت لعامين كاملين، في كسر إرادة الفلسطينيين وإنهاء المقاومة في القطاع فكرا وعقيدة؟
فراق الأهل والأحبة والرغبة في الانتقام
من زاوية نفسية، فإن مثل هذه الآلام التي ضربت جيلا ولد ونشأ تحت الحصار والحروب والنار لا بد لذاكرته أنها مثقلة بالألم وجراح عميقة في النفوس. تترك هذه الجراح مفاعيلها على شخصية الفرد. فاستمرار الموت والفقد للأحبة والأهل وجماعة الرفاق والجيران على نحو ما جرى في حرب الإبادة على غزة يصيب الفرد بصدمة شديدة ويراكم الحزن لديه. ويتملكه شعور بالذنب والعجز لعدم قدرته على إنقاذ الذين اختطفهم الموت أمام ناظريه دون أن يمتلك وسيلة أو قدرة على إنقاذهم، وتتسلط عليه الرغبة في الانتقام. ويغرق في الإحساس بالعزلة والوحدة وقد تطارده الكوابيس في نومه.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4«الإجهاد» وحش نستطيع ترويضه وتقليل خسائره.. بهذه الخطوات
- list 2 of 4لماذا تهدد روسيا باستخدام النووي؟ وكيف ينظر الناتو لهذا التهديد؟
- list 3 of 4جنوب السودان: هل تراجعت حظوظ بول ميل في خلافة سلفاكير؟
- list 4 of 4من “أوفوا بالعهد” إلى أوسلو.. إسرائيل نموذجًا لنقض المواثيق
اجتماعيا فإن فراق الأهل والأحبة يعني فقدان الأمان المادي والمعنوي والحماية، بما يوجب عليه الاعتماد على نفسه إن كان شابا أو طفلا وتحمل مسؤوليات أكبر من عمره، وربما صار عليه إعالة إخوة أصغر أو الباقين من أسرته، كما أن موت الأصدقاء ورفاق اللعب والدراسة للأطفال والمراهقين يترتب عليه فقدانهم لشبكة علاقات اجتماعية مهمة تحميهم من الوحدة والعزلة.
من ثم يميل الفرد إلى الانسحاب والانعزال فيكون نافرا رافضا لعلاقات جديدة خشية تكرار الفقد. هكذا ينمو جيل مشبع بالحزن والحرمان والتشوهات النفسية والاجتماعية. وأن تدمير المسكن الذي يأويه ينزع عنه ما قد يكون لديه من بقايا شعور بالسكينة والأمان، بينما تدمير المدرسة ينسف مستقبله التعليمي، كما أن قصف المستشفى يدمره مرة أخرى بصدمة الفقد نتيجة العجز عن إنقاذ الناجين المصابين من الأهل والأصدقاء وفقدان الرعاية الطبية عند اللزوم.
التوحش وتوريث العنف المصبوب
أما قصف دور العبادة وإزالتها فيغيّب الرمزية الروحية ويلهب المشاعر الدينية. فيما ضرب المرافق وانهيارها يشل حياة المرء ويفاقم أزماته الحياتية ولوازم الإعاشة ويسلب استقراره ويورثه يأسا عميقا فيجنح إلى العنف لانتزاع ما يراه حقا له. هذه الدوامة من العنف والقهر والتوحش تخلق إنسانا متحفزا للمجهول القادم فاقدا للثقة فيمن حوله لا يأمن لهم قلقا متشككا في إمكانية استمرار علاقته بالغير ويصير عدوانيا يرث العنف المصبوب عليه ويتطبع به ساعيا إلى امتلاك القوة باحثا عن الأمان المطلق.
إنها نواتج وانعكاسات نفسية مركبة معقدة تتراكم لتعيد توريث العنف أو بالأدق تنتج أشخاصا تتجذر في نفوسهم صدمة العنف فتخلق لديهم الإيمان بأهمية القوة وحتمية امتلاكها لينتهي بهم المطاف إلى «المقاومة» خيارا أمثل وحاضنا لهم عوضا عن الذين اختطفهم الموت.
ثم أن هذه التراكمات للقصف بالنار ليلا ونهارا طوال عامين وما يرافقها من موت وفقد وعنف لا تتعلق بذاكرة فرد أو مجموعة أفراد بل تطال الشعب الفلسطيني كله وذاكرته الجمعية داخل غزة وخارجها في الأراضي المحتلة والعالم. أضف إلى ذلك أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتغلغلها في حياة الناس أتاح فرصا واسعة لتوثيق ما جرى صوتا وصورة ومن ثم إنتاج ذاكرة حية تنتشر وتنقل ما جرى لمن لم يعاصر هذه الأحداث فيكتسب وعيا بما كان.
القدس ركيزة لعقيدة المقاومة
عودة لسؤال المقاومة فكرا وعقيدة، فهل كسرت؟
لا جدال بأن كل هذه المعاناة والتعقيدات والتراكمات النفسية والاجتماعية لحرب الإبادة على غزة الأبية تمثل وقودا يبقي جذوة «المقاومة» متقدة ومشتعلة في النفوس ويعلي من شأنها وتجعلها خيارا وحيدا وتزيدها تجذرا وثباتا. وفي الأصل تبقى «المقاومة» في كل الثقافات قرينة للاحتلال تلازمه وجودا وعدما. على أنها في الحالة الفلسطينية عقيدة إيمانية وهرما من القيم والمبادئ والسلوكيات والمشاعر والإيمان بالأرض والتاريخ والكرامة. أكثر من هذا، فـ«القدس» ركيزة أساسية في عقيدة المقاومة بما لها من مكانة دينية سامية لدى المسلمين جميعا، والدفاع عنها واستردادها واجب مقدس.
فلم ولن يتحقق للعدو الصهيوني هدف كسر «المقاومة» فكرا وعقيدة، فهي أبقى وأسمى وأقوى من الإبادة. وسيرحل الاحتلال يوما.
المجد والعزة للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.
