أن تتبرع مصر إلى غزة

في اللحظة التي طالب فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي الشعب المصري بالتبرع لأهالينا في غزة بعد وقف حرب الإبادة، بدت ردود الأفعال واضحة.
في كل مرة اشتعلت غزة بالحرب والعدوان، امتدت النيران إلى قلب القاهرة.
منذ المطالبة بالتبرع بدا المشهد كله متجاوزًا للسياسة، كان أقرب إلى الإيمان بفكرة الأخوة التي لم تمت رغم كل ما تبدّل على مدى سنوات.
دخول الأجيال الشابة إلى ساحة الدعم والانحياز كان بديعًا بشكل لا يُصدَّق.
ردود الأفعال على سؤال: هل نتبرع؟ كانت مدهشة من مصريين بسطاء، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي.
في زمنٍ ضاق فيه العيش بدرجات كبيرة، ووصلت هموم الناس إلى ذروتها، كانت إجابات البسطاء: الفقر لا يمنع التضامن، والخبز يُقتسَم بين الأشقاء في وقت الاحتياج.
رسائل يمكن أن نلمحها ببساطة على شبكات التواصل وفي محافظات مصر.
جدل التبرع
لم تمرّ حكاية التبرع منذ بدايتها بلا جدل.
تنوعت آراء المثقفين والنخب بين من رأى أن التبرع لغزة واجب لا يحتاج إلى نقاش، وبين قلّة رأت أن الظروف الاقتصادية في مصر لا تسمح بهذا «الترف».
انحاز عدد من المثقفين لفكرة الابتعاد عن الدعم للمرة الأولى، كما لم يحدث من قبل.
هذا الجدل النخبوي حسمه البسطاء بردود أفعال مذهلة: من لا يُعطي حين يُقصَف الشقيق ويموت، سيفقد إنسانيته قبل أن يفقد ماله.
بدت حوارات الناس على المقاهي وفي الشوارع وعلى شبكات التواصل الاجتماعي محسومة لصالح دعم فكرة التبرع مهما كانت الظروف ضيّقة والأحوال صعبة.
لم يتأثر المواطن العادي بجدلٍ فارغٍ عن الاحتياج ردّده مثقفون بشكل غير طبيعي وغير مفهوم.
الجدل العام في جانب منه كان سياسيًا، وهو كذلك فعلًا، لكن على جانبه الآخر بدا أن هناك شيئًا أعمق من السياسة وجدالها، وأكبر من أحاديث السياسيين عن القدرة والاحتياج.
استحضر المواطن العادي كل إيمانه بالقضية وعدالتها، وحسم الأمر دون تردّد.
هذا الجدل السياسي تحوّل لدى غالبية البسطاء إلى معنى وجداني يرتبط بثقافة المصريين ووحدتهم عندما تواجههم المخاطر، ثم تعمّق في الضمير ليصبح جزءًا من ثقافة المصريين «الشعبية» عن الواجب والمواساة والوقوف بجانب الشقيق.
لن ننسى إنسانيتنا ولا واجبنا تجاه أهل غزة.
نحن مسؤولون عن إنقاذهم، ولن نقبل عار التخلّي عنهم.
هكذا كان ردّ المصريين، حتى الفقراء منهم!
انحيازات لا تموت
لم يكن الفلسطيني في المخيلة والعقل الجمعي المصري هو «الآخر».
هو «نحن»، لكنه يعيش خارج الحدود.
مهما تغيّرت الخطابات الرسمية، أو تسارعت المعطيات السياسية، لم يكن موقع الشعب الفلسطيني في الضمير المصري يتغيّر أبدًا.
ظل الشارع يقاوم البُعد ويرفض التصنيف القائم على فكرة «نحن» و«هم».
التضامن الذي تبدّى مع حرب الإبادة من أجيال لا تعرف الكثير عن الصراع العربي الإسرائيلي يثبت أن فلسطين لا يمكن أن تموت في وجدان المصريين.
انحازت أجيال شابة بالفطرة والضمير إلى «نحن» الذين يعيشون على بُعد خطوات من حدودنا الشرقية.
صور الأطفال والنساء والشهداء والجرحى ومن هم تحت الركام كانت ولا تزال قادرة على أن تتغلغل في الحياة اليومية لأهل مصر، وتؤثّر فيهم وتحرك ضمائرهم.
في الشوارع وفي المدارس والجامعات، يرى الناس غزة كأنها حيٌّ من أحياء القاهرة، وكأن طائرات العدوان تقصف العاصمة والمحافظات المصرية.
الانحياز لغزة عند أهل مصر حالة وجدانية عميقة يمتزج فيها التاريخ بالإنسانية، بقناعات ومعانٍ أكبر عن «المصير المشترك».
هذه المعاني التي تتحكم تمامًا في قرارات المصريين تجاه شعب فلسطين لا يمكن أن تتأثر أو تتغيّر بنداءات تطالبهم بالابتعاد عن الدعم والمساندة.
تبرع المواطن العادي وهو يعلم أنه هو نفسه يئنّ من الغلاء يُقاس بهذا المعنى من الانحياز: نحن منهم وهم منّا.
إنه يقول ببساطة: نحن لم نتخلَّ عن هذا الانحياز أبدًا.
للتبرع معنى سياسي
التبرع، مهما بدا إنسانيًا، لا يمكن أن نفصله أبدًا عن السياسة.
هو في عمقه يحمل الرسالة للداخل والخارج معًا، ويبشّر بمفاهيم لا يمكن أن تتغيّر في ضمير الناس.
في الداخل، هو يبشّر ببساطة بمعنى سياسي يؤمن به الجميع عن التاريخ والمصير المشترك.
فلسطين لا تزال نقطة إجماع في بلدٍ لا يجتمع كثيرًا.
في الخارج، هو إعلان واضح وغير متردّد أن مصر الشعبية، رغم كل ما طرأ على الإقليم من تحالفات وتغييرات على مدى السنوات الماضية، لا تزال ترى نفسها بوابة القضية، جزءًا منها لا مشاهدًا على تفاصيل ما يحدث هناك.
الأمن القومي المصري يبدأ من غزة لا من سيناء فقط.
كلها رسائل شعبية تتجاوز السياسات الرسمية والحديث الكبير، وتتحرك بوعي في مساحات تدرك أنها خطِرة.
رسائل هي في القلب من القضية، وهي الأكبر من كل حديث.
في قلب سؤال التبرع سؤالان آخران ليسا أقل أهمية:
هل نتبرع تكفيرًا عن عجزٍ طوال حرب الإبادة؟
أم أن تبرعنا هو جزء من مقاومة لا نريدها أن تنهزم؟
ربما الاثنان معًا.
اختار المصريون أن يقولوا: لن نكون عاجزين، ثم اختاروا التأكيد على أن وقف الحرب لن يُنسينا أن القضية باقية، والمقاومة يجب أن تبقى.
في جدل التبرع لغزة اختار المصريون الضمير الحيّ.
ثم استمرّوا في التأكيد على أن وعينا بالقضية وبقائها وانتصارها لن يهزمه جدلٌ نخبويٌّ سخيف عن عدم قدرتنا على التبرع.
اختار المصريون الطريق الأكثر نُبلًا وإنسانية، وخذلوا كل هؤلاء الذين راهنوا على أن الاحتياج قد يدفعهم للتفكير والتردّد في دعم أهل غزة.
خذلوا هؤلاء وهم يفعلون ذلك قصدًا وموقفًا واختيارًا.
خذلوهم وهم يبعثون برسائلهم الضمنية إلى كل الأطراف في الداخل والخارج عن وعي الشعب وقدرته وحكمته.
هم منّا ونحن منهم!
والقضية مستمرة ولن تموت.
