ساركوزي في السجن والقذافي في القبر

في تزامن مثير، يدخل الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي سجن “لا سانتي” في العاصمة باريس، الثلاثاء 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025.
قبل 14 عاما، وفي يوم الخميس 20 أكتوبر 2011، يُقتل الديكتاتور معمر القذافي في مدينة سرت على أيدي الثوار الذين أسقطوا نظامه بعد 41 عاما من الحكم الهلامي العبثي لليبيا.
لكن، ما العلاقة بين سجن ساركوزي وقتل القذافي؟
القضية التي حُكم فيها بالسجن مدة 5 سنوات على ساركوزي، منها 3 سنوات نافذة، يوم 25 سبتمبر/أيلول الماضي، تتعلق مباشرة بالقذافي الذي موَّل حملة ساركوزي لرئاسة فرنسا عام 2007 بأكثر من 50 مليون يورو، وفاز بالرئاسة، وبقي فيها فترة واحدة، وفشل في الفوز لفترة ثانية في انتخابات 2012، وبعدها انفتحت أبواب الجحيم عليه، وهو يعيش في معاناة منذ هذا الوقت، كما قال بنفسه.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4الزيتون.. حكاية صمود في وجه الجفاف والاحتلال
- list 2 of 4اتفاق المياه بين تركيا والعراق: تعاون استراتيجي أم عودة للاستعمار؟!
- list 3 of 4تراجع الهجرة إلى إسرائيل وتزايد الهجرة الخارجة منها
- list 4 of 4قاهرة يوسف شاهين وفرح الهاشم تحت مقص الرقيب
لم تكن قضية التمويل الليبي لحملة ساركوزي الانتخابية الوحيدة له بعد خروجه من الرئاسة، فقد واجه 3 قضايا أخرى أدين في اثنتين منها، وبُرّئ في واحدة.
كيف انكشفت العلاقة الفاسدة بين ساركوزي والقذافي، ولماذا؟
في خضم الموجة الأولى للربيع العربي، انطلقت شرارة الثورة الليبية في 17 فبراير/شباط 2011، وكان لفرنسا ساركوزي دور مؤثر في دعم الثورة والاعتراف المبكر بالمجلس الوطني الليبي الممثل للثورة أمام العالم، وهذا ساعد في فتح أبواب دول كثيرة أمامه، وتوالي الاعتراف به والتعامل معه بوصفه المعبّر الشعبي الحقيقي عن ليبيا.
الدور الفرنسي تعاظم أكثر في مساندة الشعب الليبي الغاضب على القذافي والثائر عليه، إذ كان لفرنسا ساركوزي دور نافذ في تمرير قرار جامعة الدول العربية بمجلس الأمن لتوفير الحماية للمدنيين في ليبيا من استهداف القذافي لهم عبر كتائبه العسكرية.
وقادت فرنسا جهود حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتوفير الحماية لليبيين، وهو القرار الذي أصدره مجلس الأمن في 17 مارس/آذار 2011، وبفضل هذا القرار نجا الليبيون من مذابح رهيبة كانوا سيتعرضون لها، وهذه المذابح حصلت في سوريا التي تقاعست أمريكا والقوى الكبرى عن توفير حماية مماثلة للمدنيين من مجازر الأسد وبراميله المتفجرة، وأخيرا سقط نظام الأسد، لكن بعد 14 عاما من المجازر، وملايين من الضحايا والمشردين.
التمويل الليبي لـ”ساركوزي”
في خضم الثورة والاقتتال، كشف سيف الإسلام القذافي عن التمويل الليبي لحملة ساركوزي الانتخابية في 2007، قائلا إن الرئيس الفرنسي خان والده، كما كشف مقربون من الدائرة الضيقة للقذافي عن وثائق بشأن هذا التمويل.
لماذا كان هذا التمويل السخي جدا؟
القذافي كان معزولا دوليا، ودعمه لـ”ساركوزي” عبر قنوات سرية ووسطاء وانتهازيين وسماسرة، بدد جانبا من العزلة حيث قام بزيارة شهيرة إلى فرنسا، وأقام خيمته الهزلية في باريس أيضا مثل الحكم الهزلي طوال 4 عقود من إهدار أموال الشعب الليبي على مغامرات وحماقات خارجية وشراء ولاءات وممارسة جنون العظمة وتفريغ عُقد مستحكمة لديه وتنصيبه ملك ملوك إفريقيا في كوميديا سخيفة سوداء.
ومنذ بدأت علاقته الودية مع ساركوزي رضخ القذافي لحل ملفات عديدة كانت تؤزم علاقاته مع الغرب، منها قضية الممرضات البلغاريات المحتجزات في ليبيا طوال سنوات حيث تم الإفراج عنهن وترحيلهن، ودفع تعويضات لضحايا طائرة لوكيربي، وسلَّم ضابط مخابرات متهما بتفجير الطائرة لقضاء عقوبة السجن في اسكتلندا، وسبق ذلك في 2003 الكشف عن مخزونات بلاده من أسلحة الدمار الشامل وتسليمها إلى الأمريكان.
وكل هذا لم يشفع له عندما انتفض الليبيون ضده واستخدم الرصاص لمواجهتهم، فقد كانت فرصة للغرب للخلاص منه حيث استنفد وجوده بعد أن رضخ وخلع كل ملابسه وبات عاريا أمام الغرب والعالم.
تحقيقات موسعة وإدانة بالتآمر الجنائي
القضاء الفرنسي تلقف معلومات تمويل حملة ساركوزي والوثائق التي سُرّبت ونشرها موقع اسمه “ميديا بارت”، وبدأت تحقيقات معمقة وموسعة وشاملة لم تترك أحدا له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالقضية إلا واستُجوب سواء داخل فرنسا أو في البلدان التي يقيمون فيها، وفُحصت أوراق كثيرة وتفاصيل هائلة طوال أكثر من عشر سنوات حتى انتهت محكمة باريس الجنائية في 25 سبتمبر الماضي إلى أن ساركوزي مُدان بالتآمر الجنائي في هذه القضية.
المحكمة لم تثبت تورطه المباشر في التمويل الليبي، إنما وجدت أن عصابة من المقربين منه هم المتورطون، وارتباطهم بساركوزي يجعل منه طرفا متآمرا يستحق السجن النافذ ليكون بذلك أول رئيس سابق في الجمهورية الخامسة يدخل السجن وينام فيه مرفوع الرأس كما قال، كما أنه أول رئيس في الاتحاد الأوروبي يدخل السجن فعليا.
يرفض ساركوزي الحكم، ويَعُدّه فضيحة قضائية، وإذلالا سياسيا له، وانتقاما منه، ويقول إنه متأكد من براءته، وطبيعي أن يقول كل مدان ذلك، وفعل هذا أيضا الرئيس الأمريكي ترامب في القضايا التي كان يحاكَم فيها قبل فوزه بالرئاسة للفترة الثانية، وقد عُلّقت القضايا لأنه أصبح رئيسا منتخبا، لكنها لم تسقط أو تُغلق نهائيا.
سيادة القانون
هكذا تكون سيادة القانون والعدالة سواء في فرنسا أو أمريكا أو في العالم الحر الديمقراطي حيث يصعب الإفلات من المحاسبة لمن يتورط في انتهاك القانون، ولو كان رئيسا أو قائدا أو زعيما عظيما.
وهكذا تكون قوة الدول بالعدالة التي هي فوق السلطة والقوة.
وهكذا تعيش الدول وتنعم الشعوب بحياتها في ظل حرية الرأي وديمقراطية الحكم واستقلال القضاء وسيادة القانون.
سجنت فرنسا رئيسا، وهو حدث كبير وتاريخي، لكنها بذلك تعزز نفسها بلدا كبيرا يكتب تاريخا ناصعا، وتؤكد ثقة العالم بنظام العدالة فيها، ومتانة ديمقراطيتها، وانعكاس ذلك بلا حدود على الثقة بنظامها السياسي، وعلى الاقتصاد والاستثمار والمكانة الدولية لها.
في المقابل، إذا كان القذافي -وهو في قبره- يثأر من ساركوزي، فهو مع ذلك يسجله التاريخ الأسود مستبدا أفقر بلاده وأفسدها، وقمع شعبه وقهره، وكانت نهايته بشعة ومهينة لعنجهيته الفارغة، ويراها ليبيون عدالة من نوع آخر تحققت حتى لو جاءت متأخرة ومثيرة للجدل.
