قراءة في شعارات التفوق الديني خلال حرب إسرائيل على غزة

في ظلّ التصعيد الدموي غير المسبوق الذي شهدته غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تبرز إلى الواجهة ممارسات وخطابات تُظهر بشكل متزايد كيف أصبح الدين أداةً مباشرةً لتبرير الحرب، وكيف يُستدعى التراث الديني اليهودي المتطرِّف لتبرير انتهاكات جسيمة بحق المدنيين الفلسطينيين. وفي وقتٍ بات فيه بعض الحاخامات يباركون علنا طياري المقاتلات التي تقصف الأطفال والنساء، لا تبدو هذه الشعارات مجرد انفعالات فردية، بل تعبيرًا عن أيديولوجيا مترسخة تُشكِّل إحدى أخطر ركائز الاحتلال.
بعيدا عن المفردات الأخلاقية الإنشائية، ومن زاوية تحليلية سياسية وتاريخية، لا يمكن تجاهل هذه الشعارات الدينية، ولا التعامل معها على أنها هامش في خطاب الحرب، بل هي عنصر أصيل في البنية الفكرية والسياسية التي تُنتج هذا العنف.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4كيف شكّلت إسرائيل شبكة من المثقفين المزورين؟!
- list 2 of 4من هولاكو إلى تل أبيب: إعادة إنتاج التوحش
- list 3 of 4ما بعد الزنزانة: ساركوزي وامتحان العدالة الفرنسية
- list 4 of 4أين احتفظ النبي بأخطر أسرار دولة الإسلام؟
فما هي هذه العقيدة؟ وكيف تسهم في تكريس بنية استعمارية دينية تُعيد إنتاج ذاتها عبر الحروب؟ وكيف يمكن فهمها من خلال قراءة مقارنة مع التجربة النبوية في الإسلام، لا سيما في المواقف الكبرى التي اختبر فيها النبي محمد ﷺ مفاهيم الحرب والعدالة والتعامل مع العدو؟
شعارات دينية بصيغة عسكرية
منذ اندلاع الجولة الأخيرة من الحرب الإسرائيلية على غزة، رُفعت في إسرائيل شعارات ذات طابع ديني، بعضها استخدم نصوصا توراتية تدعو إلى إبادة «أعداء الرب»، وبعضها الآخر استند إلى فكرة «تطهير الأرض من الغرباء»، في إشارة إلى الفلسطينيين. هذه الشعارات لم تعد محصورة في الحلقات الدينية أو الكتيبات المتشدِّدة، بل تسربت إلى خطاب جنرالات وجنود، وحتى إلى خطب حاخامات يؤدون أدوارا تحفيزية داخل الثكنات العسكرية.
في هذا السياق، لا يُخفى أن قطاعا من التيار الديني القومي داخل إسرائيل يرى أن الحرب على غزة ليست مجرد معركة سياسية أو أمنية، بل جزءٌ من معركة مقدَّسة لإعادة بناء «أرض الميعاد»، وأن تطهيرها من الفلسطينيين ليس فقط ضرورةً استراتيجية، بل «فريضة دينية».
يُحوَّل فيه المقاتل إلى وسيط بين «الرب والتاريخ»، وتُجرَّد فيه الضحية من إنسانيتها.
الجذور التاريخية.. من اللاهوت إلى الاستعمار
ما يشهده الواقع الإسرائيلي اليوم ليس جديدا في تاريخه الحديث، لكنه بات أكثر علانية وأكثر جرأة. الفكرة المركزية التي تقوم عليها هذه العقيدة هي تصور اليهود كشعبٍ مختارٍ، يتمتع بامتيازٍ روحيٍ يتيح له حق السيطرة على «الشعوب الأدنى»، وهي رؤية صاغها بعض التيارات الحاخامية القديمة، وأعاد إحياؤها تيار «الصهيونية الدينية» في القرن العشرين.
هذه العقيدة شكّلت أساسا أخلاقيا لتبرير الاستيطان وطرد السكان الأصليين، وتمظهر ذلك في حرب 1948، واستمر بعد احتلال الضفة وغزة عام 1967. لكنّ الفارق اليوم أن ما كان يُقال في السرّ أصبح يقال في العلن. وما كان يُشار إليه بلغة الرموز الدينية، بات يُقال بلغة مباشرة: «اقتلوا سكان غزة، فالله يأمركم بذلك».
وعندما تُبارك المرجعيات الدينية تلك الأفعال، فإننا لا نكون أمام تجاوزات فردية، بل أمام خطاب ديني مؤسساتي يدفع نحو ارتكاب أفعال يمكن تصنيفها —قانونيا وأخلاقيا— كجرائم حرب، لكنها تحظى بغطاء «روحي» داخل البنية الإسرائيلية.
النموذج النبوي في إدارة الصراع
في المقابل، تقدّم السيرة النبوية نموذجا آخر لإدارة الصراع ضمن حدود العدالة. ففي لحظات الشدّة القصوى، حين كان المسلمون الأوائل يخوضون معارك دفاعية وجودية، لم يُبرّر النبي ﷺ أبدا استهداف الأطفال أو النساء أو المسالمين.
بل إنه، في أكثر من مناسبة، نهى نهْيًا قاطعًا عن قتل غير المقاتلين، وعن التمثيل بجثث الأعداء، وعن تخريب البيوت والمزارع.
ولم يُقدّم النبي ﷺ نفسه قطّ كقائد ديني يملك حق الإبادة باسم الله، بل كرسولٍ يدعو إلى العدالة، ويُقيم الحجة، ويحترم المواثيق، ويُقاوم الاحتلال الفكري والروحي قبل القتال المسلح. كان الفتح عند النبي ﷺ هو فتح القلوب قبل فتح الحصون.
ومن الملفت، في سياق الربط مع الواقع الراهن، أنه في القرآن الكريم، في سورة «الحشر»، وُصفت لحظة سقوط بني النضير —إحدى القبائل اليهودية التي نقضت العهد— بقوله تعالى: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ»، وهو وصفٌ يُشير إلى حالة انهيار داخلي تسبق الهزيمة، حيث يقوم النظام المتغطرس بتدمير ذاته بفعل الغرور والاستعلاء.
وفي هذا السياق، تبدو الشعارات الدينية الإسرائيلية التي تبرّر إبادة الفلسطينيين وكأنها إرهاص لنموذج الانهيار الداخلي ذاته، حيث يتحوّل الدين إلى أداة تخريب لا بناء، وإلى مبرر للتفكك لا ركيزة للاستقرار.
مخاطر شعارات التفوق الديني الإسرائيلية
لا تقتصر مخاطر الشعارات الدينية الإسرائيلية المتطرِّفة على سكان غزة وفلسطين، بل تمتد لتؤثر على الاستقرار الإقليمي والدولي. فعندما يُشرَّع القتل باسم الدين، فإن ذلك يُمهِّد الطريق أمام أجيال من المتطرفين ويُغذي خطابات الكراهية، ويجعل السلام أبعد منالا.
كما أن الصمت الدولي عن هذه الشعارات —أو التعامل معها باعتبارها وجهة نظرٍ ثقافية— يُكرِّس ازدواجية المعايير، ويُفقد القانون الدولي شرعيته. في الوقت الذي يُدان فيه الحق في مقاومة المحتل حين تمارسه جماعةٌ إسلامية، تُبرَّر التجاوزات وعمليات الإبادة باعتبارها دفاعًا عن النفس من طرفٍ محسوب على الغرب، وهو ما يُعمّق الفجوة الأخلاقية بين الشعوب ومؤسسات النظام الدولي.
في الخلاصة
الحرب على غزة ليست مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل هي حرب خطاب بامتياز. خطر الشعارات الدينية التي يرفعها قادة الاحتلال الإسرائيلي لا يكمن في ألفاظها فقط، بل فيما تُنتجه من واقع. وحين يتحوّل معتقد ديني إلى ذريعة لإبادة المدنيين، فإن السكوت لم يعد ممكنا، ولا التردد في المواجهة بات جائزا.
وفي ظل ما نشهده اليوم، تبدو الحاجة ملحّة لمواجهة الخطاب الديني المتطرِّف للاحتلال الإسرائيلي، الذي يحول الحرب إلى طقس عقائدي يبرّر القتل باسم التفوق والاختيار الإلهي. إن عدم مواجهة الخطاب العقدي المتطرِّف الذي يغذي الممارسات الدموية للاحتلال الإسرائيلي يعني السماح لمشروع إبادة بأن يتقدّم تحت لافتة «الحق المقدَّس»، ويهدد جوهر الإنسانية نفسها.
