الفاشر مدينة تحترق تحت مظلة الصمت الدولي

نازحون فروا من الفاشر (رويترز)

في غرب السودان، وتحديدًا في قلب دارفور التي تحتلها وتسيطر عليها قوات الدعم السريع بقيادة حمدان دقلو الشهير بحميدتي، وحيث كانت الفاشر رمزًا للتجارة والسلام الداخلي بين القبائل المحيطة، تحوّلت المدينة إلى رمزية جديدة للمأساة السودانية التي لم تتوقف منذ انطلاق الحرب المشؤومة عام 2023، لتصير مجزرة الفاشر في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2025 مرآةً تكشف وجه الصراع العاري في السودان، حيث صراع الهوية والذاكرة والأرض، تديره أطراف خارجية، وتُذكيه مرتزقة يدفع أجورهم المواطنون الأبرياء من كنوز السودان المدفونة. في الفاشر استُبيح كل شيء: استُبيحت دماء النساء والأطفال والشيوخ، وأعراض الشباب، واستُبيحت حتى أحلام أصحاب الأرض.

آخر المدن الصامدة


هي العاصمة التاريخية لولاية شمال دارفور، وآخر معاقل الجيش السوداني في الإقليم. استطاع الناس فيها الصمود بالرغم من الحصار الاقتصادي الشديد المفروض على المدينة، وذلك لاعتمادهم على فكرة الاكتفاء الذاتي في حدود إمكانات بسيطة، حيث يقوم الجميع بزراعة مساحات محدودة حول المنازل بالخضراوات الأساسية، مع تربية الأغنام، والاعتماد على النخيل المتروك على المشاع ليتناوله من يريد. وبذلك استطاعت الفاشر أن تصمد لفترة أطول بالرغم من عزلتها عن قوات الجيش وبُعد المسافة بينها وبين أقرب مدينة تخضع لحكم الجيش السوداني.

لقد كان وضع الفاشر يشبه إلى حدٍّ ما الجيب الأخير للجيش السوداني في المنطقة، ومثّل سقوطها انتهاء الوجود العسكري الرسمي في الغرب، وبالتالي إعادة تشكيل خريطة المنطقة وفق إرادة أطراف خارجية، تصب جميعها في التنكيل بالمواطن البسيط وضياع أرضه. وقد وثّقت منظمة «أطباء بلا حدود» ومنظمة «يونيسيف» في تقاريرهما الحصار الخانق على المدينة، وحالات نهب المساعدات، ونقص الدواء، وانهيار العمل بالمستشفيات.

ليلة سقوط الفاشر


في السادس والعشرين من أكتوبر 2025، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على المدينة بعد معارك شرسة مع الجيش النظامي، وفي الثامن والعشرين، أي بعد المعارك بليلتين، أعلن الجيش انسحابه من المدينة تجنّبًا لإبادة المدنيين. لكن الإبادة المتوقعة صارت إبادة حقيقية بعد اندلاع أعمال إعدام ميداني بحق المدنيين، لتوصف الأحداث بأنها مجزرة ذات طابع عرقي، حسب تقرير شبكة «أطباء السودان الديمقراطيين». كما شهدت المدينة هجمات على المساجد والمستشفيات وفق رويترز و«بي بي سي»، مما أدى إلى مقتل سبعين من المصلين، ثم ستين مدنيًّا أغلبهم من النساء والأطفال بقصف مدرسة للإيواء.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

بعد حصار طويل، لأكثر من مئتين وستين ألف مدني نصفهم من الأطفال، قضوا سنتين من الحصار يتناولون ما لا يكاد يُقيم أودهم، ظلّ الأمر حتى تمّت السيطرة عليها من «الدعم القاتل»، فانقطعت سبل الحياة تمامًا. تعرّضت آلاف النساء لحالات من الاغتصاب الجماعي، وقُتل المرضى في أسِرّتهم مع مرافقيهم في المستشفيات. لا ماء، ولا كهرباء، فضلًا عن الطعام أو وسيلة حماية من قتلٍ محقق.

أطفال تم تجويعهم لمدة عامين، ثم ها هم يُحصدون بالموت جوعًا. إن الوضع في الفاشر لم يعد يتوقف عند كونه مجرد أزمة إنسانية لا يتحدث عنها أحد، بل لقد تحوّل إلى جريمة ممنهجة ضد الوجود الإنساني.

لماذا كانت المجزرة بهذا الحجم الذي لم تظهر أبعاده كاملة بعد؟
إن للصراع في دارفور وضعًا تاريخيًّا خاصًّا ربما ساهم بشكل كبير في أن يكون انتقام ميليشيات الجنجويد بتلك الشراسة. لقد استُخدمت تلك القوات نفسها في قمع تمرد حركات خرجت من دارفور، حتى استفحل أمر الميليشيات وصارت قوة سياسية واقتصادية، تملك السلاح والمال والعلاقات الدولية.

ولذلك فالهجوم على الفاشر حمل بعدًا تاريخيًّا في الصراع، ليتحوّل إلى حالة من فرض النفوذ على إقليم دارفور ليكون تابعًا بالكامل للدعم السريع. لقد كانت المجزرة رسالة للداخل بأسلوب الصدمة، وللخارج بفرض واقع جديد يُجبر الأطراف المعنية على الاعتراف بالطرف المتمرّد كمفاوض بعد أن يضع يده على غنيمته التي اكتسبها بالقوة، وإن كانت قوة تحت لواء إبليس.

الفاشر دليل على فشل المجتمع الدولي


كانت المجزرة متوقعة للجميع وفي أي وقت. فمنذ العام الماضي، وتحديدًا في مايو 2024، دعت الأمم المتحدة عبر مبعوثها الخاص فولكر بيرتس إلى حماية المدنيين في الفاشر، محذرًا من إبادة وشيكة، ولم تكن هناك أي استجابة لهذه التحذيرات.

ولأن الحرب السودانية بآثارها الشديدة دارت في الظلام دون زخم إعلامي عالمي، فقد مات الناس في صمت دولي شبه كامل، وفشل العالم في حماية مدينة تم الإعلان عن إبادتها مسبقًا. وهنا يجب طرح أسئلة حرجة: هل ما زال القانون الدولي يحمل قوة أخلاقية ما؟ أم أن ما يدور في الفاشر حتى هذه اللحظة من تطهير عرقي اجتمعت على قبوله قوى دفعت الأموال في سبيل أن يتم، وفي سبيل السكوت على إتمامه؟

آثار المجزرة على مستقبل السودان


إن آثار المجزرة على السودان سوف تظهر في الأيام القليلة، بل والساعات القليلة بعدها، ففوق الانهيار الاجتماعي في دارفور وإعادة إنتاج خطاب الكراهية، سوف يُعاد تشكيل ميزان القوة، وذلك بمنح الدعم السريع نفوذًا يفرضه على ساحة التفاوض، ومن ثم الحديث عن عملية انقسام أخرى قد تمزّق السودان إلى قطع صغيرة للمرة الثانية.

ثم يأتي انهيار الثقة في الجيش الرسمي للدولة لعدم قدرته على استعادة كامل السودان، مما سيُحجِّم عودة النازحين من السودانيين إلى الدول المجاورة. إن ما يدور اليوم في دارفور هو إعادة استنساخ لتاريخ طويل من الصراع الداخلي في السودان، لكنه هذه المرة تحت مظلة خارجية تُقوّي طرفًا ضد الدولة، وتُغدق في سبيل تمزيق السودان مهما اختلفت الروايات السياسية والعسكرية للمجازر على مدار الساعة.

وتلك ليست دعوة لأي طرف بالتوقف أو الاستمرار حتى حسم المعارك، فالخاسر الوحيد فيها أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل فيما يدور. إنها صرخة إنسانية ضد العبث الدائر، مستغلة صمت الأنظمة والمنظمات العالمية الذي يحمل موافقة ضمنية على هدر دماء الفقراء الأبرياء، صرخة ربما تمنع مجزرة أخرى يُعَدّ لها في ليل، قبل أن تتحوّل الفاشر إلى غزة أخرى.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان