سقوط “الفاشر”.. هل يعجّل بانفصال دارفور؟

في حين تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي العربدة والبلطجة والتوحش، إغارةً وقتلًا وتشريدًا، في جنوب لبنان وسوريا واليمن والأراضي الفلسطينية المحتلة، والإبادة لغزة. تزامنًا مع حروب داخلية، وانقسامات على خلفيات طائفية ومذهبية وعرقية عربية في ليبيا والعراق واليمن. وبينما الشعوب العربية شاخصة أبصارها نحو غزة، وهي تحبس أنفاسها أملًا بأن تضع حرب الإبادة عليها أوزارها، إذا بالأنباء تتوالى عن سقوط مدينة الفاشر السودانية (26-29 أكتوبر/تشرين الأول 2025) بأيدي ميليشيات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
سقطت المدينة بعد حصار استمر 500 يوم (منذ مايو/أيار 2024) و300 هجوم عليها من قوات حميدتي، واستخدام التجويع سلاحًا بمنع المؤن الغذائية والطبية عن الدخول إلى الفاشر. ليُصدَم الجميع بانكشاف جرائم تجويع ومجازر وإبادة جماعية للمدنيين في المدينة، استمرت حتى يوم الأربعاء الماضي. وتكمن الصدمة في ارتكاب هذه الجرائم لسكان الفاشر السودانيين بأيادٍ عربية سودانية.
كسوة الكعبة المشرَّفة..
وقبائل عربية وإفريقية
وكشفت مقاطع “فيديو” وصور متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، وإفادات ميدانية، أن الأيام الثلاثة الأخيرة السابقة لسقوط الفاشر شهدت سقوط 2300 قتيل من المدنيين. كما تعرضت نساء كثيرات للعنف الجنسي، وفقد مئات المرضى حياتهم في المستشفيات، وأُعدم المئات، وأبيدت أسر كاملة أثناء عبورها الطرق فرارًا من القتل. وأظهرت صور لأقمار اصطناعية تحوُّل الرمال في مناطق بالمدينة إلى اللون الأحمر، بما يؤشر إلى غزارة الدماء المَسيلة.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4ما بعد الزنزانة: ساركوزي وامتحان العدالة الفرنسية
- list 2 of 4أين احتفظ النبي بأخطر أسرار دولة الإسلام؟
- list 3 of 4قوات عسكرية تركية في غزة رغم أنف إسرائيل
- list 4 of 4فرانكشتين: بين غرور الخلق ومرارة الندم
وقُطعت الاتصالات والكهرباء تمامًا. وقبل ساعات قليلة أصدر مجلس الأمن الدولي، المعني بحفظ الأمن والسلم الدوليين “بيانًا” أدان فيه هجوم “الدعم السريع” على المدينة، وأعرب عن قلقه من الفظائع المرتكبة بحق المدنيين من إعدامات وغيرها بدوافع عرقية.
ودعا البيان إلى وقف فوري للقتال، وامتناع جميع الدول عن التدخل وتأجيج الصراع الدائر في السودان. مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وهي العاصمة السياسية والثقافية للإقليم، اشتهرت قديمًا بتقديم كسوة الكعبة المشرَّفة. تسكنها قبائل من جذور إفريقية وعربية.
تحتل الفاشر موقعًا فريدًا، فهي ترتفع عن سطح البحر 700 متر، وتقع غربي السودان، وتفصلها عن العاصمة السودانية الخرطوم مسافة ألف كيلومتر، وتشغل مساحة 24 ألف كيلومتر، ويسكنها مليون ونصف مليون نسمة، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
شبح انفصال دارفور..
وسيناريو استقلال جنوب السودان
تُعَد الفاشر نقطة ربط لإقليم دارفور مع دولة تشاد، مما يوفر للدعم السريع مسارات ومنافذ لجلب وتلقي الإمدادات والأسلحة من تشاد وليبيا وغيرهما. وهي آخر معاقل الجيش السوداني (قبل انسحابه منها) إذ تحتضن قبل سقوطها مطارًا وقاعدة عسكرية. وسقوط الفاشر يعني إحكام “قوات الدعم السريع” السيطرة على إقليم دارفور بالكامل، بعدما سبق لها إخضاع باقي مدنه وولاياته. وهذا من شأنه تقوية الموقف التفاوضي لميليشيات “حميدتي” إذا لم يطل شبح انفصال الإقليم عن السودان.
وهو ما تنبه إليه البيان الصادر (الخميس) عن مجلس الأمن الدولي، مؤكدًا رفضه إنشاء سلطة حاكمة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، بما يؤشر إلى أخطار اشتداد الاقتتال الأهلي الداخلي، والمزيد من التدخلات الخارجية، والتفكك الجغرافي لمكونات السودان. ويعيد إلى الأذهان سيناريو انفصال “جنوب السودان” وإعلانه دولة مستقلة عن السودان.
فقد سبق الانفصال حرب أهلية نشبت مرتين بين الجنوب والشمال في السودان: الأولى (1955-1972)، والثانية (1983-2005).
هذه الحروب الأهلية أسست لها بريطانيا أثناء احتلالها للسودان (1899-1956) بتطبيق نظام إداري يفصل بين الجنوب والشمال لتعميق الهوة الثقافية والدينية (الشمال مسلم، والجنوب مسيحي). وبعد الاستقلال، مارست الحكومة السودانية التهميش للجنوب، مما أسفر في النهاية عن تدخلات دولية أدت إلى إجراء استفتاء أفضى إلى إعلان نشأة دولة جنوب السودان.
الجنجويد وقمع التمرد في دارفور..
وقصة الدعم السريع
مشكلة هذه الحرب بين الجيش السوداني وميليشيات الدعم السريع، المشتعلة منذ يوم 15 إبريل/نيسان عام 2023، أنها استمرار لمسلسل سقيم من الحروب الداخلية والأهلية التي سقط فيها السودان منذ استقلاله عام 1956، وهو ما أنتج مئات الآلاف من القتلى والمصابين، وملايين المشرّدين. وهي حروب من شأنها تمزيقه إلى دويلات، مثلما انفصل الجنوب واستقل بدولته (2011). وهذا كله بفعل الاستبداد وغياب الديمقراطية التي تخاصم أوطاننا العربية.
وها هي “ميليشيات الدعم السريع”، التي احتضنها الرئيس السابق الجنرال عمر البشير (1989-2019)، تؤدي أخطر الأدوار في تمزيق ما تبقى من السودان، بعد أن ارتضت أن تكون أداة لقوى خارجية تضمر الشر للسودان.
ترجع قصة “قوات الدعم السريع” إلى نشأتها جماعة مسلحة باسم “الجنجويد” في إقليم دارفور، ثم استعان بها البشير لقمع التمرد في الإقليم، وهو التمرد المشتعل منذ عام 2003 نتيجة التهميش للسكان، ونشوء حركات مسلحة متمردة.
وفي سبيل قمع هذا التمرد ارتكبت “الحكومة السودانية” جرائم مفزعة ووحشية بممارسة التطهير العرقي، وأعمال قتل جماعي، وحرق للقرى. وجرى إطلاق أيدي ميليشيا الجنجويد لقتال الجماعات المتمردة.
وفي عام 2017 منح البشير شرعية قانونية للجنجويد، وخصص لها موارد مالية وإدارية، وقواعد وأسلحة، باسم “قوات الدعم السريع”، لتصبح كيانًا موازيًا لـ”الجيش”، لتنقلب عليه وتدخل حربًا معه تحرق الأخضر واليابس في هذا البلد المنكوب.
استعادة الأراضي من الخونة..
واستنزاف دماء السودانيين
عودة إلى سقوط “مدينة الفاشر”، ففي كلمة متلفزة لرئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، أكد قدرة الجيش على استعادة الأراضي من يد الخونة، في إشارة إلى ميليشيات الدعم السريع.
على كل حال، فسيطرة الدعم السريع على الفاشر تفتح الباب واسعًا لاحتمالات عديدة. فقد تتزايد الإمدادات الخارجية بالسلاح للدعم السريع، ويغريه إخضاع دارفور بالتمدد إلى إقليم كردفان. وقد يعجّل سقوط الفاشر بانفصال إقليم دارفور.
والأرجح، للأسف، هو استمرار هذه الحرب استنزافًا لدماء السودانيين وحياتهم، ومقدَّرات السودان. فإلى متى؟ لا أحد لديه إجابة.
