«ثالث المنافي» تونس وفلسطين: لماذا؟

انطلقت من تونس مؤخرا مبادرات محلية ومغاربية وعالمية لكسر الحصار على غزة، من «قافلة الصمود» في يونيو/حزيران إلى «أسطول الصمود» في سبتمبر/أيلول 2025. ومع غُرّة أكتوبر/تشرين الأول 2025 حلت الذكرى السنوية الأربعون لعدوان الطائرات الإسرائيلية على ضاحية حمّام الشط جنوبي مدينة تونس («عملية الساق الخشبية») مستهدفة مقرات منظمة التحرير الفلسطينية؛ فنجا رئيسها ياسر عرفات من مخطط قتلٍ متعمد.
لكن جريمة إرهاب الدولة المتكررة، بعيدا عمّا كان من قبلُ في دول المواجهة فـ«الطوق» (قبل تونس ضد بغداد 1980، ولاحقًا الخرطوم 2012، وصنعاء وطهران والدوحة بين 2024 و2025)، أسفرت عن استشهاد 50 فلسطينيا و18 تونسيا ومائة مصاب؛ امتزجت دماؤهم معًا بالتراب التونسي على بُعد نحو 1280 ميلًا من فلسطين المحتلة.
أهمية حالةٍ وكتاب
عندي تفسيرات عديدة -جراء معايشة الناس كمراسل صحفي مصري- تُجيب عن السؤال: «لماذا تونس؟». وأكتفي بالإشارة إلى كون البلد يعرف مجتمعًا مدنيًا أكثر حيوية واستقلالية مقارنة بالمحيط العربي.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4«الإجهاد» وحش نستطيع ترويضه وتقليل خسائره.. بهذه الخطوات
- list 2 of 4لماذا تهدد روسيا باستخدام النووي؟ وكيف ينظر الناتو لهذا التهديد؟
- list 3 of 4جنوب السودان: هل تراجعت حظوظ بول ميل في خلافة سلفاكير؟
- list 4 of 4من “أوفوا بالعهد” إلى أوسلو.. إسرائيل نموذجًا لنقض المواثيق
ولأن مسافاتٍ تفصل بين توجهات الناس والحكومات، تظل للحالة التونسية أهميتها في سبيل تحرير فلسطين، بصرف النظر عن تأثير انقلاب يوليو/تموز 2021 سلبا على قدرة التونسيين ومؤسساتهم المدنية عمّا تحقّق خلال عشريّة ما بعد الثورة.
لكن وجدتُ من الأجدى البحث عن الأسباب والعِبَر في كتاب صدر نهاية 2024 للصحفي والباحث الشاب التونسي أحمد نظيف: «ثالث المنافي: الوجود الفلسطيني بتونس 1974–1994».
وللأسف لا أرى بعد اهتماما يليق بموضوع الكتاب وجهده الاستقصائي البحثي، علاوة على أسلوب ممتع ينحو أحيانا إلى التصوير الدرامي للأحداث، مع الرجوع إلى مصادر بثلاث لغات ووثائق جرى فضّ السرية عنها مؤخرا، وإجراء ثلاث حوارات لشهادات خاصة. والعديد من هذه المصادر ظهر بعد الثورة التونسية، وبين 2015 و2016، ما يفيد بأن قرّاء العربية أمام جديدٍ غير معروف من قبل.
يشكو المؤلّف -كحال الباحثين العرب الجادّين- من إخفاء الوثائق الرسمية، هنا تونسيًا وفلسطينيا، على الرغم من مرور الزمن واختفاء أبطال أحداثها بالموت وتبدّل الحكام والحكومات.
بتصنيف مصادر الكتاب، يتضح مراجعته 32 بالعربية و16 بالإنجليزية و7 بالفرنسية؛ تتوزع على 21 كتابا (بينها 8 مذكرات شخصية)، و3 شهادات حوارية خاصة، و18 دورية وصحيفة أجنبية، و12 دورية عربية. وغالبية المصادر من خارج تونس (40) مقابل 17 مصدرا من داخلها، أمّا الوثائق فجميعها بالإنجليزية.
قائمة المراجع هذه تعني أن كتابة تاريخنا تتطلب البحث خارج جغرافيّتنا، كما تُبشر بتقدّم جيلٍ بين التونسيين أكثر تحرّرا من الفرانكفونية ولِحاقا بعصر سيادة اللغة الإنجليزية.
بيدِ الحركة الشعبية لا النظام
للإجابة عن سؤال المقال، يفيد الكتاب أن القضية الفلسطينية كانت -وظلّت- بيد الحركة الشعبية لا بيد النظام، مقارنة بدول عربية أخرى كمصر وسوريا والعراق وليبيا والجزائر؛ وأن التفاعل غير الرسمي في الفضاءات العامة مع مجريات القضية الفلسطينية، تحدّيا لاحتكار السلطة لها، يقود إلى نوعٍ من «تحرّر الذات»، والسعي لتغيير الأوضاع الاستبدادية التسلطية فرديا وجماعيا. وهذا يتسق مع كتبٍ ودراسات سابقة توثّق لدور «العامل الفلسطيني» في التمهيد للثورة والإطاحة ببن علي.
وعندي أن فهم الجيل الجديد المتميز بين الصحفيين والكتّاب والباحثين التونسيين -ومؤلف «ثالث المنافي» نموذجا- لا يمكنه تجاهل تأثير الثورة وعشريّتها الأولى، وما أتاحته من ممكنات كانت مستحيلة قبلها.
اتصالات بورقيبة السرّية بالصهاينة
مثلا، يكشف الكتاب عن جوانب ظلّت مطموسة في علاقة الحبيب بورقيبة بالقضية الفلسطينية -غابت عن نصوصٍ انتقادية ككتاب الصافي سعيد «بورقيبة: سيرة محرّمة»- حين يوثّق اتصالات سرية مع صهاينة وإسرائيليين قبل استقلال تونس 1956 بنحو خمس سنوات، ولاستمرارها لاحقا، وإن مُنِيت بانتكاساتٍ مع العدوان الثلاثي على مصر 1956 وحرب 1967. ويفسّر الكتاب هذه العلاقات بسماتٍ شخصية لبورقيبة ومنهجه السياسي البراغماتي، وإن حادَ بالتفسير عن الموضوعية أحيانا تأثرا بتحيّزات فكرية وعاطفية للمؤلف.
من إيجابيات الكتاب تقديم رواية تونسية موثّقة عن خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس (1982–1994) بعد الأردن؛ تمزج بين قراءة حقائق السياسة والحسابات الواقعية عند القادة من أعلى، وبين دراما المشاعر عند المقاتل والمناصر للثورة الفلسطينية والتفاعل مع البيئة التونسية الشعبية الحاضنة—كتاريخٍ «من أسفل». وبمزيدٍ من الأسى يُشخّص الكتاب كيف كتبت المنظمة في تونس فصلها الأخير مع الثورة والكفاح المسلّح وصولا إلى أوسلو.
ستة استنتاجات صالحة للحاضر والمستقبل
يقود الكتاب إلى استخلاص ستة استنتاجات قد تفيد في التعامل مع حاضرنا ومستقبلنا -بعد 7 أكتوبر- هي:
1- تَنفُذ الصهيونية إلى أعلى مراكز السلطة والحكم باستغلال الطموح الشخصي الزعامي، وبالتسليم بقوة نفوذها في دوائر الحكم والاقتصاد والإعلام الأمريكية والغربية. وفي الحالة البورقيبية (كما يقدمها الكتاب) تطوّرت العلاقات مع الصهاينة من تأمين تأييد دولي لاستقلال تونس، فدعم دولة الاستقلال اقتصاديًا وعسكريًا، إلى طموح الزعيم الرئيس في «نوبل للسلام» بين 1965 و1966. وتحيلنا هذه السردية التونسية إلى غياب إرادة وفعل الاعتماد على الذات؛ وهو ما لا نستثني منه زعامة الرئيس عبد الناصر، إذ ظلّت مصر تطلب القمح الأمريكي حتى 1967.
2- دور مراكز القوى غير الدستوري في صناعة القرار السيادي؛ كما يُشير الكتاب إلى دور السيدة «وسيلة» زوجة بورقيبة في القبول باستضافة قيادة وكوادر المنظمة. وبالطبع مثل هذه الأدوار نتيجة حكم الفرد وغياب المؤسسية والديمقراطية.
3- القابلية للانكشاف والاختراق الأمني مرارًا جراء افتقاد الجدية والصرامة؛ كما أوضح الكتاب بشأن حمّام الشط، ثم اغتيال الموساد لأبي جهاد (1988)، وعنصرٍ منشقٍّ على «فتح» لأبي إياد وأبي الهول (1991).
4- تورّط حركات التحرّر- وهنا قيادة المنظمة- في التدخّل بشئون البلد المضيف: انحيازا لجناحٍ في السلطة ضد آخر، أو باللعب دور الوسيط بادعاء «الإطفائي» إزاء أزمات محض محلية؛ كما بين حكومة مزالي واتحاد الشغل (1986).
5- خطورة اللعب على تناقضات الأنظمة العربية على حركات التحرر الوطني، والتورّط في توظيف أجهزتها المعلوماتية لحساب طرفٍ ضد آخر.
ا6- لمعركة الدبلوماسية التونسية في مجلس الأمن لانتزاع القرار 578 (1985) الذي يدين العدوان على حمّام الشط -بعد إقناع إدارة ريغان بالامتناع عن التصويت بدل الفيتو- تُنبّه إلى ثمنٍ سياسي (كالتنازل عن توصيف «إرهاب الدولة»). ولم يوضح الكتاب: هل وُظِّفت مخاوف منح معارضة الداخل ورقة تهدّد استقرار نظام حكمٍ حليف؟
«قليل جدا… متأخّر جدا»
يرجّح الكتاب أن مسار قيادة المنظمة إلى «أوسلو» والقبول بالصهيونية والاعتراف بإسرائيل- أي «تطبيع الضحية» شبه المجاني مع الجاني المستعمِر- موغِل في السبعينيات، قبل أي تبريرٍ يستند لمتغيرات غزو صدام للكويت وانهيار الاتحاد السوفييتي.
ولعلّ من حكمة التاريخ -أو سخرية الأقدار- أن يعلّق بورقيبة عندما بلغه نبأ اتفاقات أوسلو (1993) وهو معزولٌ حبيس الإقامة الجبرية بعبارته: «قليلٌ جدًّا… متأخّرٌ جدًّا».
ولا أعرف ماذا بإمكان بورقيبة – الذي نادى في 1965 بتنفيذ قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين (1947)- أن يقول اليوم عن «حلّ الدولتين» في طبعة 2025 الأكثر بؤسا وظلما؟
