غزة والصمود التاريخي.. حين تتكرّر معركة الأحزاب على أبواب المدينة

منذ أعوام، وغزة تواجه حربًا مفتوحة لا تختلف في جوهرها عن حصار المدينة (الذكاء الإصطناعي)

في قلب المعاناة الفلسطينية المستمرة، تعود غزة لتتصدّر مشهدًا إنسانيًا وسياسيًا لا يشبه إلا نفسه، لكنها في الوقت ذاته تذكّرنا بمشاهد في التاريخ الإسلامي، عندما كانت المدينة المنوّرة في مهد دولتها الناشئة تواجه تحديًا وجوديًا من داخلها وخارجها.
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد صراع عسكري أو مأساة إنسانية عابرة، بل هو اختبار كاشف للضمير الإنساني، ولمعاني السيادة والعدالة والمقاومة، تمامًا كما كانت غزوة الأحزاب اختبارًا مكشوفًا للقيم المؤسسة للدولة الإسلامية الوليدة في المدينة.
وبينما تبدو موازين القوة مائلة بالكامل لصالح الاحتلال، فإن التاريخ – حين يُستدعى بعين الفهم لا بعقل الحنين – يضع بين أيدينا مفاتيح للفهم والصبر والاستشراف.

من المعركة العسكرية إلى المفهوم السياسي للمواجهة

لم تكن السيرة النبوية مجرد سردٍ لحروب أو تنقّلات، بل مشروع متكامل لفهم بناء الدولة، وإدارة الصراع، وتثبيت القيم في لحظات الانهيار.
غزوة الأحزاب – أو الخندق – كانت لحظة مفصلية في تاريخ الدولة الإسلامية الناشئة؛ كُشفت فيها نيات القوى المعادية، وسقطت فيها أقنعة بعض الحلفاء، وتمايَزَ فيها الصف الداخلي.
تشابه مذهل يمكن أن يُلحظ بين هذا المشهد وبين ما تعانيه غزة اليوم، ليس فقط لأن كلتا المدينتين محاصرتان، بل لأنهما تواجهان «تحالفًا» يضم أطرافًا خارجية وعدوًّا مباشرًا، وآخرين من داخل الصف، يظهرون الحياد أو الحذر، لكنهم عمليًا يعيدون إنتاج الحصار نفسه.
النبي ﷺ في غزوة الأحزاب لم ينتصر بالسلاح بقدر ما انتصر بالصمود، وبإعادة تشكيل المفهوم السياسي للمواجهة. المدينة يومها لم تكن تملك توازنًا عسكريًا، لكنها امتلكت وضوحًا أخلاقيًا في تموضعها، وثقة شعبية بقيادتها، ورباطة جأش أسقطت مشروع الهدم من الداخل قبل الخارج.

غزة تعيد صياغة الأخلاق في زمن القصف

منذ أعوام، وغزة تواجه حربًا مفتوحة لا تختلف في جوهرها عن حصار المدينة في العام الخامس للهجرة. فكما تجمّعت القبائل على أطراف المدينة، تُحاصر غزة اليوم بجدران من نار وحديد، ومواقف دولية متواطئة أو عاجزة، وسط خطاب دولي يُعيد إنتاج مفردات «القلق» و«الدعوات لضبط النفس» – تمامًا كما كانت قريش ترفع شعارات الحفاظ على مكة بينما تستعد لاجتياح المدينة.
لكن المفارقة الكبرى أن غزة – كحال المدينة – لا تخوض المعركة فقط في الميدان، بل تخوضها أيضًا على جبهة المعنى: من يملك الحق؟ من يحدد العدالة؟ من يُعرّف الإرهاب؟ وهل يستطيع شعب أعزل أن يعيد صياغة الضمير العالمي بالصمود وحده؟
في السيرة، انتصر النبي ﷺ بعد أن كُسر الحصار من حيث لا يتوقع أحد. يقول الله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾.
وفي غزة، رغم الجراح، تظل معادلة الصمود الشعبي والانضباط الأخلاقي والتماسك الاجتماعي هي الروافع التي تصوغ واقعًا مقاومًا، لا يقف فقط أمام الاحتلال، بل أمام سردية سياسية تحاول نزع المعنى عن كل أشكال المقاومة.

المنافقون في المدينة والصامتون في حاضرنا

لعل من أكثر المشاهد تقاطعًا بين السيرة وواقع غزة هو المشهد الداخلي؛ ففي غزوة الأحزاب كانت الخيانة تُنسج من داخل المدينة: تردد، وتخاذل، وإشاعات، ودعوات للانسحاب، وتحريك للشكوك في القيادة والجدوى.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾.
اليوم، لا يختلف المشهد كثيرًا. موجة «الحياد» التي تجتاح بعض النخب السياسية والثقافية، ومحاولات تحويل القضية إلى عبء، أو إعادة تعريفها بلغة «الواقعية السياسية»، هي في جوهرها صيغة عصرية من خطاب المنافقين. هؤلاء لا يقفون ضد غزة بشكل مباشر، لكنهم ينهكونها بالتشكيك، ويضغطون عليها بدعوات «التهدئة»، ويُحاصرون روايتها في الفضاء الإعلامي بذرائع «الموضوعية».

من بدر إلى أنفاق غزة وتحالف الأحزاب في نسخة معاصرة

في لحظة فارقة، قال النبي ﷺ في بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض بعد اليوم». كان الوعي واضحًا بأن المعركة ليست مجرد حدث عسكري، بل معركة بقاء للمعنى واستمرارية للمشروع.
هذا هو ذات المعنى الذي يحرك اليوم مشهد المقاومة في غزة؛ ليست المسألة انتصارًا عسكريًا يُقاس بعدد الدبابات المعطوبة، بل هو صمود روحي، وبناء لمعنى جديد للحرية، وإعادة ترسيم لمعادلات الهيمنة الإقليمية والدولية.
الأنفاق التي بنتها غزة تحت الأرض لا توازيها أهمية إلا «الأنفاق المعنوية» التي حفرها أهلها في الوعي العربي والإسلامي لإبقاء جذوة الكرامة مشتعلة.
فكما أعادت غزوة بدر تعريف مفهوم النصر، تعيد غزة اليوم تعريف مفهوم الهزيمة: حين تصمد تحت القصف فهي لم تُهزم، وحين تُصادر أصواتها فإنها تُرغم الآخرين على سماعها بطريقة أخرى.
غزوة الأحزاب لم تكن تحالفًا عسكريًا فحسب، بل كانت نموذجًا لاجتماع قوى مختلفة على مشروع واحد، هو: إسقاط المدينة، لا لسبب سوى أنها تمثّل نموذجًا مغايرًا.
وكذلك اليوم، تُواجه غزة ليس لأنها خطر عسكري حقيقي، بل لأنها محرّض أخلاقي ضد صمت العالم، وتهديد رمزيّ لنظام قائم على الازدواجية.
حين يفشل مجلس الأمن في وقف المجازر، وتُغلق معابر العون، ويُشيطن الضحية، فإننا أمام نسخة سياسية متقدمة من الأحزاب – تعدد في الوجوه ووحدة في الهدف.

اختبار الأمة على أبواب غزة

في لحظات الحصار الكبرى لا تُختبر الجيوش وحدها، بل يُختبر المعنى والمبدأ والضمير الجمعي. وغزة اليوم تشبه المدينة وهي تفتح أبوابها للخندق وتُغلقها على المنافقين.
إن السيرة ليست مرجعًا للتاريخ فقط، بل دليل عمل سياسي وأخلاقي، يُعيد ترتيب المفاهيم حين تتشوّش البوصلة.
وغزة – وهي تصمد في وجه آلة الإبادة – لا تنتظر الشفقة، بل تنتظر أن تُقرأ كما قرأ النبي ﷺ واقع المدينة: أن النصر لا يُقاس بالزمن، بل بالثبات على الطريق.
في نهاية غزوة الأحزاب، قال النبي ﷺ: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا».
ربما تكون هذه العبارة هي المفتاح لفهم اللحظة الراهن

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان