السابع من أكتوبر.. خمس ساعات كسرت الهيبة الإسرائيلية

تحول طوفان الأقصى إلى أيقونة، وفي طهران جُعل لافتة كبيرة في الميادين العامة (الفرنسية)

بعد عامين من عملية السابع من أكتوبر، ما زال الانقسام حول مشروعية العملية يشتعل بين فريقين ينظران إلى الحدث بطريقة متباينة: أحدهما يرى أن العملية كانت اليوم الذي انهارت فيه أسطورة الأمن الإسرائيلي، وأن الاختراق سيؤسس لمعطيات جديدة في العالم لصالح القضية الفلسطينية، ومنها اعتراف 80% من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، بينما يراه الفريق الآخر نكسة فلسطينية جديدة دفعت ثمنها غزة بدماء تجاوزت 67 ألف مدني تحت قصف لم يفرّق بين طفل ومقاوم.

في الحقيقة يصعب الحكم الآن على ما ستؤول إليه الأحداث بثقة ويقين، فما زلنا حتى اللحظة أمام تداعيات الحدث الذي ما زال مفتوحًا على احتمالات لم تُكتب فصولها الأخيرة بعد، لأن التقييم الحقيقي لمن انتصر ومن هُزم يتطلب مسافة زمنية، والنتائج النهائية تتشكل عبر سلسلة من التطورات، بعضها قد يكون غير متوقَّع.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن طوفان الأقصى كان زلزالًا مدويًا أصاب إسرائيل في صميم هيبتها -باعتراف قادتها- وما حدث بعده فضح هشاشة القاتل وأزال القناع عن صورته أمام العالم، فمع أعداد الضحايا الهائلة ودماء الأبرياء التي أُريقت، أصبح الكيان موضوع إدانة ورفض عالمي.

يكفي أن ما حدث في ذلك اليوم أعاد إلى المستوطنين شعور الخوف والقلق الوجودي الذي لم يعيشوه منذ حرب 1973، ووصفه البعض بأنه أشد لأنه جاء من منطقة محاصرة تُراقب فيها الأنفاس والتحركات لحظة بلحظة.

خمس ساعات كسرت الهيبة

ولعل الصدمة التي لم ولن يستوعبها الكيان هي أن خمس ساعات فقط كانت كافية لتفكك هيبة دولة اعتادت أن تصوغ صورتها عبر سطور الأمن والردع. ففي الساعة السادسة والنصف فجر السابع من أكتوبر 2023، وبينما كان الاحتلال يغفو على وهم الأمان، انطلق وابل من الصواريخ تبعته اقتحامات عبر عشرات النقاط الحدودية، وتمكنت المقاومة من إحكام قبضتها على ذلك المشهد حتى الحادية عشرة صباحًا. وما جعل تلك الساعات استثنائية ليس فقط حجم الاختراق، بل الشلل المؤسسي في التعامل معه، إذ بدا الجيش عاجزًا عن السيطرة، وتأخر وصول التعزيزات، وانكشفت هشاشة المنظومة الأمنية.

مجموعات مسلحة من المقاومة نجحت في عبور حدودٍ وُصفت يومًا بأنها الأكثر تحصينًا في العالم، مستخدمة وسائل بدائية: دراجات، مركبات، زوارق صغيرة، وطائرات شراعية.

اختراق جعل الحدود الذكية والكاميرات والأبراج التي رُسمت كرمز للتفوّق تتحول فجأة إلى شاهد على عجز التكنولوجيا أمام الشجاعة والإرادة. خمس ساعات فقط كانت كافية لتقويض أسطورة الأمن المطلق، ولتُظهر أن التفوق العسكري الإسرائيلي يساوي صفرًا أمام عنصر المفاجأة.

بين 6 و7 أكتوبر.. رمزية متجددة

المفارقة التاريخية لافتة في السادس من أكتوبر 1973، إذ باغتت مصر وسوريا الكيان بهجوم مفاجئ في يوم الغفران، أصابه بالذهول ودفعه إلى إعادة النظر في عقيدته العسكرية.

وبعد نصف قرن، جاء السابع من أكتوبر 2023 ليعيد المشهد ذاته -وهذه المرة من الجنوب- من طرفٍ غير تقليدي، ليس جيشًا نظاميًّا بل مجموعات من المقاومة تستخدم أدوات بسيطة لتفرض معادلة جديدة.

والدرس واحد في الحالتين: حين يطمئن النظام الأمني إلى تفوقه المطلق، تتسلل الهشاشة من أضيق الثغرات.

واليوم، تُعقد جولات المفاوضات في مصر بين الأطراف المتصارعة، في تزامنٍ لافت مع ذكرى السادس من أكتوبر المجيد، ويبدو ذلك وكأنه إشارة من القيادة المصرية إلى رمزية التاريخ والمكان، وتأكيد على أن القاهرة ما زالت تمسك بخيوط التوازن الإقليمي، وقادرة على جمع الأضداد كما فعلت في لحظات مفصلية سابقة.

الصدمة الكبرى بعد لبنان

وإذا كان انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 قد هزّ ثقة جيش الاحتلال بنفسه، فإن ما حدث في السابع من أكتوبر تجاوز ذلك بأضعاف. يومها كان الانسحاب قرارًا سياسيًّا محسوبًا، أما في 2023 فالمفاجأة جاءت من الداخل، ومن طرفٍ محاصر تُراقب كل أنفاسه.

لقد أحدثت صدمة طوفان الأقصى ارتدادات واسعة داخل إسرائيل، فالثقة بين المجتمع والقيادة السياسية والعسكرية تصدعت، وبدأت الأسئلة تتدفق حول كفاءة الأجهزة الأمنية وجدوى مليارات الدولارات التي أُنفقت على منظومات المراقبة.

الغباء السياسي يقلب المشهد

ما حدث عقب طوفان الأقصى كشف عجز الكيان التام عن ممارسة أي حنكة سياسية، إذ قادته نزعة جنون العظمة إلى حملة انتقام جماعي بلا حدود. الهجمات العنيفة التي طالت المدنيين -الأطفال، المدارس، دور العبادة، والمستشفيات- أمام شاشات العالم، حولت مشهد الرد الأمني إلى جريمة موثقة ضد الإنسانية، فانقلب التعاطف الدولي إلى إدانات واسعة ومحاكمة بارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية، بما في ذلك التجويع المنهجي للسكان.

إذ إن كل خطوة من خطواته كانت بمثابة إعلان رسمي عن استهتاره بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، وإمعانه في العزلة الدولية. كما أن الأحداث الأخيرة -مثل الهجوم الذي شنّه بن غفير على نشطاء أسطول الصمود وإهانتهم أمام الكاميرات- كانت أفضل تجسيد علني لغبائه السياسي واستعداده لاستفزاز العالم وإذلال المشاركين، مما زاد من الطابع العدواني للمشهد، وجعل الكيان يبدو وكأنه يعاقب العالم كله على أي انتقاد أو تدخل.

يمكن الجزم بأن العامين الماضيين شكّلا أسوأ كوابيس الكيان الإسرائيلي، وهو كابوس تحوّل إلى حقيقة، إذ إن الخسائر مهما حاول تغطيتها بالانتقام والمجازر لن تمحو الإهانة ولا السمعة السيئة التي مُني بها. لقد فقدت إسرائيل ما تبقى من صورتها المزعومة كديمقراطية متحضرة، وانكشفت ككيانٍ يعيش على منطق القوة لا العدالة.

وهكذا تحوّل التعاطف إلى نبذ، والدعم إلى عزلة. لا شك أن المقاومة الفلسطينية نجحت في تعرية حقيقة هذا الكيان وهشاشته، كأنها تقول: «في خمس ساعات اخترقنا عشرات المواقع، وسيطرنا على نقاط أمن، وأسرنا جنودًا وضباطًا بأسلحة خفيفة وإرادة وحزم».

خمس ساعات فقط كانت كافية لتعيد تشكيل الإدراك العالمي، ومن رحم تلك الصدمة وُلدت مرحلة جديدة تتجاوز حسابات الردع إلى سؤالٍ أعمق: كيف يمكن لمن يملك كل أدوات القوة أن يخسر أمام من يملك الجرأة فقط على كسر الأسطورة؟

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان