السادس والسابع من أكتوبر.. معركة الحفاظ على الذاكرة

غرفة عمليات حرب أكتوبر 1973 حيث يظهر الرئيس السادات وقيادات الجيش المصري (منصات التواصل)

خمسون عامًا بين السادس من أكتوبر 1973، حيث سجل الجيش المصري نصرًا محا به مرارة الهزائم السابقة، والسابع من أكتوبر 2023، حيث طوفان الأقصى الذي مثّل محطة مضيئة في تاريخ النضال الفلسطيني. كلتا المعركتين مثّلَت صدمة للعدو لم يفق منها حتى الآن رغم كل جبروته، وكل جولاته العدوانية اللاحقة التي أراد بها -دون جدوى حتى الآن- محو تلك الذكرى الكئيبة بالنسبة له.

عشنا خلال عامين تداعيات طوفان الأقصى؛ صدمة في الداخل الإسرائيلي منعت مستوطني غلاف غزة والجليل الأعلى من العودة حتى الآن، بل دفعت آلاف الإسرائيليين للهجرة العكسية من الكيان الذي كانوا يعتبرونه جنتهم الآمنة. تغيّر كبير في الرأي العام الدولي لصالح القضية الفلسطينية أثمر حتى الآن هذه الاعترافات الدولية المتوالية -ولو كانت عملًا رمزيًّا- بالدولة الفلسطينية، وهذه المظاهرات الهادرة في عواصم لطالما عُرفت بدعمها اللامحدود للكيان الغاصب، ومحاكم دولية (العدل والجنايات) تطارد الكيان وقادته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وتدفع نتنياهو لتجنّب الطيران فوق أجواء بعض العواصم خشية اعتقاله تنفيذًا لقرار قضائي دولي، ومنظمات ومجموعات دولية جديدة تتشكل دعمًا للقضية الفلسطينية وملاحقة العدو (مجموعة لاهاي نموذجًا).

مواجهة الروايات المضللة

لا نتجاهل إطلاقًا ما تعرض له قطاع غزة -ولا يزال- من دمار، وحرب تجويع، وإبادة إنسانية. نتألم لما يصيب أهلنا في القطاع، وندرك أن كل يوم يمرّ عليهم كألف سنة مما تعدّون. لا نتجاهل أن جيش الاحتلال دمّر غالبية أرض ومباني القطاع حتى يجعله غير صالح للحياة الآدمية، ولا نتجاهل أنه لا يزال مصرًّا على خطته للتهجير رغم أن مبادرة ترامب الأخيرة طوَتْها. ندرك أن هذا الأمر قابل للتغيير، لكننا رغم ذلك نثق في عدالة القضية الفلسطينية، ونثق في أن شعب فلسطين الذي تحمّل الكثير على مدار 77 عامًا قادر على استيعاب ما حدث في غزة، وقادر على إعادة بناء القطاع بأفضل مما كان عقب انتهاء العدوان، وانسحاب الاحتلال، وبدء عمليات الإعمار.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

في ذكرى 6 أكتوبر 1973 و7 أكتوبر 2023 علينا أن نستحضر كل معاني الفخر والاعتزاز بهذين اليومين التاريخيين، وأن نواجه بكل قوة محاولات تشويههما. لقد حاول الكيان الصهيوني نشر رواية مضلّلة عن حرب 1973 مدّعيًا فيها انتصاره، مدلّلًا على ذلك بأنه عبر غرب القناة لمسافة مئة كيلومتر فيما عُرف بثغرة الدفرسوار، وروّج الكيان هذه الرواية في المحافل الغربية الأكاديمية والسياسية والإعلامية، واستمر في ذلك حتى قبل يومين فقط (تصريحات الناطق باسم الجيش أفيخاي أدرعي)، لكنها رواية لا تقف على ساقين. فالواقع منذ السادس من أكتوبر 1973 أن الجيش المصري عبر قناة السويس التي كانت تحت نيران الاحتلال فعليًّا، ولذلك ظلت مغلقة حتى تمّت إعادتها للملاحة بعد تطهيرها من الألغام عام 1975 في نفس ذكرى إغلاقها (5 يونيو). كما حرّر الجيش المصري مساحة معتبرة من أرض سيناء شرق القناة بعد تحطيمه لخط بارليف المنيع، وهو ما مثّل حماية لاحقة للملاحة في القناة، وفتح الباب لتسوية سياسية من موقع الانتصار، رغم ملاحظاتنا وانتقاداتنا للطريقة التي تعامل بها الرئيس السادات بعد الحرب.

مرجفون يحاولون التشويه

قبل عامين، وفي ذكرى مرور خمسين عامًا على تلك الملحمة، نشر جيش الاحتلال وثائق عن الحرب، كما نشرت مصر أيضًا مجموعة من الوثائق. وإضافة إلى ذلك ما نشره قادة الحرب من مذكرات، وكلها تؤكد كم كان ذلك الانتصار معجزة بكل المقاييس المادية. لم يكن توازن القوى العسكرية أو السياسية أو المادية في صالح مصر بالمرة. حدثت أخطاء في الحرب، وهذه طبيعة المعارك الكبرى، وحدث خلاف بين كبار القادة العسكريين حول التعامل مع تلك الأخطاء -ومنها ثغرة الدفرسوار- وهذا طبيعي، ولكن المحصلة النهائية هي العبور وتحرير مساحات من سيناء.

تلك الوثائق المصرية ومذكرات القادة ونشرات الأخبار، وحتى المسلسلات والأفلام التالية، لم تكن وحدها التي نقلت لنا حقيقة المعركة والانتصار، بل كل ضابط وجندي نقل تلك الرواية إلى مدينته وقريته وأهله وجيرانه وأصدقائه. استضافتهم مراكز الشباب والمدارس والجامعات والنقابات… إلخ، لنقل الرواية الحقيقية التي ترسخت في الذاكرة الجمعية المصرية، وترسخ معها -وقبلها- العداء للكيان الصهيوني الغاصب، الذي يحاول البعض حاليًّا توجيه الشعب المصري لتجاوزه.

وقد أُجبرت دول عربية عديدة -وعلى رأسها مصر بعد اتفاقية السلام- على تغيير مناهجها الدراسية لحذف كل ما يحمل تلك الروح المعادية للكيان والمتمسكة بالجهاد والنضال، في الوقت الذي استمرت فيه المناهج التعليمية في الكيان كما هي، تُغذي النشء الإسرائيلي بجرعات متزايدة من الكراهية للفلسطينيين والعرب، وتعتبرهم حشرات أو حيوانات. بل إن الكيان لم يغيّر نشيده الوطني المعتمد على إشارات توراتية توسعية تحمل تهديدًا للمنطقة كلها، كما أن الحكومة الإسرائيلية -وهي حكومة علمانية- أجبرت العالم على الاعتراف بكيانها كدولة يهودية، وعبر نتنياهو عن تبنّيه للرؤية التوراتية التي توسّع حدود الكيان لتشمل أراضي من مصر ولبنان وسوريا والمملكة الأردنية.

واجب الشعوب المحتلة

ما يتعرض له نصر أكتوبر من تشويه يقوده الكيان أساسًا، ومعه بعض الأصوات المصرية والعربية، يتكرر الآن مع طوفان الأقصى الذي يتعرض للتشويه ذاته ومن الأصوات نفسها. والحقيقة أن التشويه لا يقتصر على طوفان الأقصى بل يتسع للمقاومة بشكل عام التي يراها البعض سببًا في استمرار الاحتلال لا سببًا في إحياء القضية والضغط على الكيان وصولًا إلى تحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة!

والسؤال لهؤلاء المرجفين: منذ متى تحررت أرض محتلة بدون مقاومة؟! ومنذ متى قبلت قوة احتلال إنهاء احتلالها طواعية؟! حتى الدول الاستعمارية الكبرى التي وعدت شعوب مستعمراتها بالجلاء عنها عقب الحرب العالمية الثانية مكافأةً لها على مشاركتها في تلك الحرب لم تفِ بتعهداتها، واضطرت الشعوب إلى مقاومتها بكل الوسائل العسكرية والسياسية الممكنة حتى أجبرتها على الجلاء. فلماذا نستكثر ذلك على الفلسطينيين؟!

في يومي 6 و7 أكتوبر كانت المعركة عسكرية، والآن المعركة مدنية، وهي لمواجهة تزييف الوعي وتشويه الذاكرة. وواجب النخب الإعلامية والأكاديمية والثقافية والفنية والعسكرية -المصرية والعربية- المعتزة بأوطانها ودينها ومبادئها أن تقوم بدورها في هذه المعركة، حتى لا تترك الساحة للمرجفين والمتصهينين يعيثون فيها فسادًا وتشويهًا.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان