هل يعود «تابع بوش الوفي» إلى غزة؟

توني بليز (غيتي)

ليس لأنه كان على رأس حكومة الدولة التي تسببت في مأساة اغتصاب أرض فلسطين التاريخية وتشريد الشعب الفلسطيني وتهجيره إلى الشتات عام 1948، ومكّنت الصهيونية العالمية -بدعم لا محدود- من غرس دولة إسرائيل قسرًا في قلب العالم العربي.
وليس لأنه لا يتمتع بالحياد الواجب في قضية العرب الأولى، وله تجربة سابقة وفاشلة في هذا الملف بعد أن قضى سنوات يرأس لجنة دولية للتعاطي معها، أثبت فيها أنه لا يصلح أن يكون وسيطًا نزيهًا في قضية طرفها العرب أو المسلمون، وأن انحيازه للكيان الصهيوني واضح لا شك فيه.
وليس لأن بلاده صاحبة السجل الاستعماري الأسوأ في العالم منذ قرون، وما صاحبه من إهدار حقوق الشعوب المستعمَرة، وسرقة مواردها وخيراتها، ونهب ثرواتها، والمساهمة في تخلفها وفقرها.

ولكن إضافة إلى كل ما سبق، فإن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق (1997-2007)، شريك شخصي في جريمة غزو العراق عام 2003 بواسطة قوات التحالف الدولي الذي تزعمته الولايات المتحدة الأمريكية، ولأنه نتيجة هذا الغزو أصبحت يده ملوثة بدماء مئات الآلاف من العراقيين بفعل الغزو والحصار والتشريد.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

إن الرجل المرشح لرئاسة هيئة دولية تدير قطاع غزة يحمل سجلًّا أسود يجعل منه اختيارًا كارثيًّا في ترتيبات اليوم التالي بعد وقف حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد سكان قطاع غزة المنكوب.

من الحكومة إلى الرباعية

لم يجلس رئيس الوزراء البريطاني الأسبق في منزله يومًا واحدًا بعد مغادرة منصبه، ففي يوم 27 يونيو/حزيران 2007 قدّم توني بلير استقالته من رئاسة الحكومة البريطانية، وفي اليوم نفسه عُيّن مبعوثًا للجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط، التي تشكلت من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

كان الرئيس الأمريكي وقتها هو جورج بوش الابن (2001-2009)، وكان الرئيس الروسي وقتها هو فلاديمير بوتين الذي يتولى المنصب ذاته حاليًّا، وكان الأمين العام للأمم المتحدة هو الكوري الجنوبي بان كي مون الذي كان قد تولى منصبه قبل ستة أشهر فقط، ولم يثبت أقدامه بعد، وما زال يتعرف على دهاليز المنظمة الدولية.

كان اختيار بلير مكافأة له على دعمه اللامحدود للرئيس الأمريكي بوش الابن في ما وصفه بـ”الحرب على الإرهاب”، حيث أرسل قوات بريطانية انضمت لنظيرتها الأمريكية لمحاربة تنظيم القاعدة ضمن حملة أمريكية انطلقت مع حلفاء عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، عندما نُسب لتنظيم القاعدة استهداف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومقر البنتاغون في ولاية فرجينيا بواسطة طائرات مدنية اختطفها انتحاريون منتمون للتنظيم، الذي كان زعيمه أسامة بن لادن يعيش متخفيًا في جبال أفغانستان.

التابع الوفي لبوش

في شهر يونيو 2002 أظهر استطلاع للرأي أن ما يقرب من ثلثي البريطانيين يرون أن رئيس الوزراء توني بلير هو تابع لبوش، قاصدين تبعيته له في سياساته وتوجهاته التي لاقت معارضة بين البريطانيين، وخاصة داخل صفوف حزب العمال الذي كان يتزعمه، لكنها للمفارقة لاقت تأييدًا بين صفوف حزب المحافظين الذي كان في المعارضة وقتها.

الصحافة البريطانية كانت هي التي وصفت بلير مرارًا بأنه “تابع بوش الوفي” بسبب دعمه المطلق للرئيس الأمريكي في حربه ضد الإرهاب، وأصبح الوصف مألوفًا ومتكررًا في التحليلات وأعمدة الرأي ورسوم الكاريكاتير، لدرجة أن 62% من البريطانيين الذين شملهم الاستطلاع قالوا إنهم يرونه مجرد تابع لبوش. وكان ذلك أيضًا رأي نصف مؤيدي حزب العمال الذين صوّتوا في الاقتراع، ولم تتعدَّ نسبة الذين يدعمون علاقته بالرئيس الأمريكي 28%.

ووفقًا للاستطلاع الذي أجرته القناة الإخبارية الرابعة، فقد اعتبر 45% أن بلير شخص لا يُوثق به، بالمقارنة مع 29% يثقون به. كما أن الرأي العام البريطاني أظهر أنه غير متحمس لشن حرب برية على العراق، لعدم اقتناعهم بمزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وخرج الملايين في مظاهرات حاشدة عام 2003 ضد غزو العراق، حيث أبدى 56% معارضتهم لإرسال قوات بريطانية للقتال بجوار القوات الأمريكية في العراق.

التمهيد للغزو

كان الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن هو الفاعل الرئيسي في أحداث منطقة الشرق الأوسط، وشهدت رئاسته خلال ولايتين تصاعد الخطاب المتشدد والعنصري ضد المسلمين (الإسلاموفوبيا)، كما تسبب في أكبر انتكاسة للمنطقة العربية منذ نكسة يونيو 1967، حيث ادّعى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل تشكل تهديدًا للشرق الأوسط والعالم، وقام بحشد قوات دولية قوامها الأساسي الولايات المتحدة وبريطانيا لغزو العراق وإنهاء التهديد الذي زعم أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين يمثله للعالم.

تولى بلير ترويج الادعاءات التي بدأها بوش الابن على نطاق واسع، وأثار مخاوف دون مبرر حول تهديد يمثله النظام العراقي باستخدام تقارير استخبارية قادت إلى غزو العراق تحت ذريعة اجتثاث الخطر القادم من بلاد الرافدين.

التقارير التي استخدمها بلير أمام الرأي العام البريطاني والعالمي ثبت أنها ملفقة وغير حقيقية لاحقًا، ليس فقط وفق التقارير الصحفية التي اتهمته بالكذب على الشعب البريطاني، ولكن وفق تحقيق مستقل أجرته لجنة رأسها السير جون تشيلكوت بقرار من رئيس الوزراء جوردن براون، وامتد عملها من 2009 حتى 2016، وحققت في كل قرارات استخدام القوات البريطانية في حربي أفغانستان والعراق بين عامي 2001 و2009.

تقرير تشيلكوت خلص إلى أن صدام حسين لم يكن يشكل تهديدًا أو خطرًا ملحًّا للمصالح البريطانية، وأن المعلومات الاستخبارية عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل لم تكن حقيقية. التقرير الذي يعد وثيقة إدانة تاريخية لتوني بلير أكد أن الحرب على العراق لم تكن ضرورية، وأنه لم يبذل جهدًا لاستنفاد البدائل السلمية، وأن بريطانيا وأمريكا قوّضتا سلطة مجلس الأمن الدولي، وأنه لا أساس قانونيًّا لهذه الحرب.

الكذاب والمرتزق

تسبّب تقرير تشيلكوت في تكريس صورة بلير كنموذج للسياسي الذي كذب على شعبه، واستخدم معلومات غير حقيقية لتضليل الرأي العام، وشن حربا كان يمكن تجنب ضحاياها وآثارها السلبية.

أسس بلير مركزًا بحثيًّا لتقديم الاستشارات السياسية والاقتصادية للحكومات والشركات المتعددة الجنسيات لكي يستثمر علاقاته كرئيس وزراء سابق وكدبلوماسي دولي، وتعامل مع حكومات دون اكتراث بسجلها الحقوقي، وهو عكس ما كان يدعيه من أن احترام حقوق الإنسان من قيم الحضارة الغربية، وهو ما أضاف صفة المرتزق السياسي إلى جانب صفة الكذاب للرجل الذي ظل عشر سنوات على رأس حكومة بريطانيا التي كانت عظمى.

لا يختلف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سلفه جورج بوش الابن في أفكاره اليمينية المتطرفة وعدم فهمه لتفاصيل القضية الفلسطينية وانحيازه الأعمى لإسرائيل، ولا يبدو أن دور بلير سيختلف كخادم وتابع أمين لرؤية الرئيس الأمريكي ترامب إن تم تمرير هذا الاختيار. لكن السجل المشين لبلير بتاريخه غير الناصع كداعية حرب ليس فقط هو ما يجعله الرجل غير المناسب لرئاسة مجلس للسلام في غزة، ولكن أيضًا لأن بلاده اعترفت بالدولة الفلسطينية بينما ظل هو لثماني سنوات يمثل دور الوسيط في القضية الفلسطينية دون أن يوجه خلالها أي انتقاد لسياسة الاستيطان في الضفة الغربية أو لحصار غزة.

النقطة الأكثر أهمية هي أن فرض بلير -بوجهه المثير للجدل بالنسبة للفلسطينيين، وإرثه من الانحياز البغيض لإسرائيل- هو نوع من الوصاية أو الاستعمار الجديد تحت إشراف دولي، وهو أمر لن يقبل به الفلسطينيون بسهولة بعد كل هذه التضحيات والدماء. إذ لا يجوز حل القضية الفلسطينية بعيدًا عن أصحابها، كما لا يجوز أن يعود “الكذاب التابع لبوش” إلى غزة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان