عالم بعد غزة بين الكتب والمستقبل

بحلول شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2025 الجاري، كان قراء ومتابعو المفكر الأمريكي اليهودي التقدمي المناهض للصهيونية نورمان فينكلشتاين على موعد مع كتابه المنتظر «حفّارو قبور غزة: تحقيق في فساد المراكز العليا»، أو لنقل «فساد علية القوم». وقد أشار على منصات بيع الكتاب إلى «عالم لن يعود كما كان لمن اختاروا القيام بأفعال الشيطان».
لكن الناشر، شركة «أور» المستقلة التقدمية بنيويورك، أعلن عن تأجيل إصدار الكتاب إلى مارس/ آذار 2026، على الأرجح ليعالج تطورات أكتوبر/ تشرين الأول 2025، وليظل المفكر والأكاديمي المعروف بنقده للصهيونية منذ عقود حاضرًا بوسائل التواصل الاجتماعي، يخاطب الشباب متحدثي الإنجليزية بعالم الشمال يوميًّا تقريبًا منذ طوفان الأقصى وللآن.
منازلة الصهيونية فكريًّا، واستكشاف ملامح العالم بعد حرب غزة، لم تعد تقتصر على أعلام الفكر من جيل الآباء والأجداد كفينكلشتاين ونعوم تشومسكي فقط، فسرعان ما أعاد حدث الطوفان المقاوم الكبير وتداعياته إلى اليوم رسم خريطة نشر الكتب الصادرة بالإنجليزية، اللغة الأكثر انتشارًا، بوصفها صناعة ثقافية ثقيلة صامدة وسط مستجدات الثورات الرقمية المتلاحقة فائقة السرعة.
قوائم كتب وفيرة وظواهر غير مسبوقة
بالموقع الإلكتروني لبيع الكتب واسع الانتشار «أمازون»، يتوافر ما يزيد على 90 عنوان كتاب بالإنجليزية بعد 7 أكتوبر 2023، وبينها ما يُجرى الإعلان عن ترقّب إصداره في غضون النصف الأول من العام المقبل 2026، ككتاب «حفّارو قبور غزة».
وفرضت فلسطين نفسها على المراجعات الثقافية لجريدة «لوس أنجلوس تايمز» الأمريكية بعد أسابيع معدودة من 7 أكتوبر، فنشرت في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 تقريرًا بعنوان: «14 كتابًا أساسيًّا لفهم حرب إسرائيل – حماس وفق خبراء».
ويفيد تحليل عناوين الكتب المنتقاة، مع أسماء مؤلفيها، بالاهتمام بسماع أصوات الكتاب الفلسطينيين واليهود والإسرائيليين نقّاد الصهيونية وتاريخها الإجرامي الإرهابي بفلسطين: خمسة أصوات فلسطينية، وإن كان بينها صوت كاتبة ناقدة لحماس، ومثلهم من اليهود والإسرائيليين نقّاد الصهيونية.
وفي مراجعة «النيويورك تايمز» السنوية لكتب 2024، وبين مئة كتاب منتقًى بالإنجليزية، يظهر ديوان «غابة الضوضاء» للفلسطيني الغزّاوي مصعب أبو توهة، مواليد 1992، الفائز بجائزة بوليتزر للآداب العالمية 2025، عن الأيام الأولى لحرب الإبادة الجماعية، والذي فقد 31 من أفراد عائلته جرّاء الإبادة. كما ضمّت قائمة الكتب رواية «العملة المعدنية» للأمريكية من أصل فلسطيني ياسمين زاهر، الفائزة بجائزة «ديلان توماس» البريطانية العالمية لأدب الشباب 2025.
وثمة مجلة إلكترونية مقرّها لوس أنجلوس «مركز ريفيو»، تُعنى بالكتب والإنتاج الثقافي والفني العربي والتركي والفارسي والأردي، وضعت بحلول 15 مايو/ أيار 2025 قائمة من 13 كتابًا بالإنجليزية عن فلسطين وغزة، صدرت منذ مطلع 2024. ويتصدر القائمة كتاب «صمود: قارئ فلسطيني جديد» للكاتبة الأمريكية ذات الأصول الفلبينية – الأردنية – الفلسطينية مولا هلسا.
ناشرون كبار وغيرهم وجيل جديد
تُفيد مراجعتنا لقوائم الكتب الإنجليزية بعد 7 أكتوبر بأن دور النشر الكبرى بمدن وجامعات الغرب لها إسهاماتها في هذا الوعي الجديد بفلسطين والصهيونية. ففي 2025 صدر عن «ماكميلان» كتاب «عيون على غزة» للكاتبة الفلسطينية الشابة بليستا العقاد، وعن «بنجوين» كتاب «العالم بعد غزة» للكاتب الهندي بنكاج ميشرا.
هذا إلى جانب دور نشر يسارية تقدمية أسهمت بسخاء وهمة في إثراء السردية المتحدية للهيمنة الاستعمارية الصهيونية، مثل دار «فيرسو»، التي نشرت على مدى العامين الماضيين عناوين مهمة في هذا السياق، نخصّ بالذكر بينها: «غزة: قصة الإبادة الجماعية» للباكستانية فاطمة بوتو والهندية سونيا فاليرو، و«مقاومة المحو: رأس المال والإمبريالية والعرق في فلسطين» لآدم هنية وروبرت نوكس ورفيف زيادة، و«التنازل (السقوط) الأخلاقي: كيف فشل العالم في وقف تدمير غزة؟» لعالم الاجتماع الفرنسي ديدييه فاسين، و«أبراج من فولاذ وعاج: كيف تحرم الجامعات الإسرائيلية الفلسطينيين من الحرية؟» للباحثة اليهودية المناهضة للصهيونية المولودة بفلسطين مايا ويند.
هكذا يتضح أن تحدي السردية الاستعمارية الصهيونية بالكتاب الصادر باللغة الإنجليزية أصبح ظاهرة تتجاوز الفلسطينيين أو الغربيين من أصول فلسطينية أو عربية، ليشارك فيها كتّاب ومثقفون أحرار على نطاق عالمي، بما في ذلك ذوو أصول آسيوية، فضلًا عن تزايد الكتّاب اليهود الأحرار الجدد المناهضين للصهيونية.
كما يبزغ جيل جديد من الأمريكيين والأوروبيين من أصول فلسطينية وعربية أو مختلطة بغيرها، يمتلك أدوات ولغة ومنطقًا لمخاطبة الجيل الجديد الناطق بالإنجليزية في الغرب، وبمجال الأدب مثل سوزان أبو الهوى مؤلفة «صباحات جنين»، وابتسام عازم مؤلفة «سفر الاختفاء» و«سارق النوم»، ومايا أبو الحيات مؤلفة «لا أحد يعرف فصيلة دمه».
يلفت النظر أيضًا أن البحث والكتابة في القضية الفلسطينية بعد غزة 7 أكتوبر، انتصارًا لأصحاب الأرض والبيت والحقوق، شغل اهتمام من لم يكن من قبل ينشر عن منطقتنا، كمؤلف كتاب «العالم بعد غزة» الهندي المقيم بلندن ميشرا، وحتى من كان في مسيرة حياته وأعماله بعيدًا عن هموم السياسة كرجل الأعمال الأمريكي ماريو رابي (61 سنة)، الذي صدر له مطلع أكتوبر الماضي 2025 كتاب «أرض محطمة: فلسطين روح لا تُقهر».
ميشرا
قرأت عروضًا لكتاب «عالم بعد غزة» لميشرا بين محتفية مقدّرة وناقدة ناقمة في مواقع صحفية وبحثية بالإنجليزية منذ نشره ربيع 2025، وقبل أن يتفضل صديق بلندن مشكورًا بإرسال نسخة ورقية للقاهرة مؤخرًا.
بحثت خلال المطالعة عن إجابة سؤال ما بعد غزة، فعثرت بصعوبة على رأي للكاتب يرجّح التطهير العرقي في عهد حكّام يمينيين عنصريين داعمين للصهيونية كالرئيس الأمريكي ترامب، وإن كان هذا كما يقول المؤلف: «يقدّم دليلًا إضافيًّا على أن قوس الكون الأخلاقي لا ينحني أمام العدالة» (ص 279).
لكن المؤلف نفسه يضع تناقض المستقبل تحت الأضواء حين يكتب:
«ما يمكن الوثوق به هو هذا الوعي بكارثة غزة لاستعادة قوة وكرامة الإنسان»، و«اكتشاف كذب ساسة وصحفيين ورجال أعمال كبار، وهو ما سيتناوله مؤرخو الإبادة بأثر رجعي مستقبلًا» (ص 276 – 278).
وذلك بعدما امتدح شجاعة شباب وطلاب جامعات غربية بين أواخر سن المراهقة وأوائل العشرينيات من العمر، أقلعوا عن «عقلية المتفرج»، وتحملوا مبكرًا مسؤوليتهم الأخلاقية تجاه الإبادة الجماعية بغزة، وانتصروا للحرية والكرامة والمساواة بتضحيات وأفعال تنكر الذات.
أهمية هذا الكتاب عندي تنبع أساسًا من انطلاقه من إعادة النظر بعمق فكري وأخلاقي وتاريخي في كيفية تعامل واستغلال كتّاب وأدباء وفلاسفة أوروبيين وأمريكيين، بينهم ناجون من «شواه» الأربعينيات، أي التدمير/ المحرقة/ الهولوكوست بالعبرية وفق الكتب المقدسة اليهودية، كي يفسّر هذا الانحياز وكذا النكران والتبلّد اللاأخلاقي إزاء الحرب الأخيرة على غزة وفلسطين، حيث «يبثّ الضحايا إبادتهم بأنفسهم في الزمن الحقيقي على الهواء مباشرة»، وذلك استنادًا إلى نحو 160 كتابًا ومرجعًا يعود بعضها إلى الخمسينيات والستينيات.
والنصوص الأدبية والفكرية الغربية التي يستدعيها الكتاب، ويحللها، ويقارنها، ويكشف تناقضاتها وتحولات أصحابها عند إعادة بناء سردية «الشواه/ الهولوكوست»، تنتهي إلى وضع الصهيونية وفلسطين حتى إبادة غزة في سياق استعمار أوروبي عنصري يسعى بالقوة لفرض تفوق العرق الأبيض، واستثناء الشعب الفلسطيني من تحرر تحقق للشعوب خلال القرن العشرين.
وتظل أسئلة عالم بعد غزة تبحث عن إجابة.
