“سيناء” بقلم “حسن البنا”!

مع اقتراح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن، عادت فكرة توطين الفلسطينيين في سيناء إلى الواجهة. ورغم أن الأطماع اليهودية في سيناء، باستعمارها أو نقل الفلسطينيين إليها، سبقت قيام دولة إسرائيل في عام 1948، لكن إعادة طرح فكرة توطين سكان قطاع غزة في سيناء تكرر على لسان أعضاء حكومة اليمين الإسرائيلي بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مرات عدة بالتزامن مع بداية معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وما يغري ترامب وحكومة اليمين المتطرف بإعادة تلك الفكرة، هو ترك شبه جزيرة سيناء فضاء دون تعمير وتنمية، ولن يجهض هذا المخطط ويحمي سيناء من أطماع الاستعمار أو التوطين حاضرًا ومستقبلًا إلا تعميرها بالبشر والحجر والشجر.
البنا يحذر من إهمال سيناء
قبل عامين من إعلان قيام إسرائيل، وقبل عشر سنوات من تدمير الجيش المصري في سيناء واحتلالها في عام 1956، وقبل 21 عاما من تدمير الجيش المصري للمرة الثانية في سيناء وطرده واحتلالها بالكامل لمدة 15 سنة، قبل ذلك كله، حذر المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ حسن البنا من إهمال سيناء وتربص اليهود بها، في مقال بعنوان “حول سيناء والسودان” نُشر في جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد 137، في 18 من ذي القعدة 1365 من الهجرة، الموافق 13 من أكتوبر 1946 ميلادية، وندد فيه بجهل الساسة التام في مصر بأهمية سيناء وبالكنوز الدفينة المنثورة في كل مكان من الوطن الغني القوي العزيز التي يجب أن تكون أول المقررات التي تدرس للطلبة في المدارس، وبانخداعهم بالتعاليم الاستعمارية التي شوهت تلك الحقائق وتعمدت إخفاءها.
وكان سبب هذا التحذير ما ورد في بيان إسماعيل صدقي باشا، رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت، والتعبير عن سيناء المباركة بلفظ برية سيناء، ووصفها بأنها أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا نبات إلا أربعة بلاد جُعلت للتموين وقت اللزوم. وقال إن هذا المعنى أثار في نفسه سلسلة من المحاولات التي قام بها المستعمرون منذ احتلوا هذه الأرض؛ ليركّزوا هذا المعنى الخاطئ في أدمغة السياسيين المصريين، وفي أبناء سيناء أنفسهم، فأخذوا يقللون من قيمتها وأهميتها، ويضعون لها نظامًا خاصًّا في التعليم والتموين والحكم والإدارة، ويحكمها إلى العام الماضي فقط (1945) محافظ إنجليزي يَعُد نفسه مطلق التصرف في كل مقدراتها، ويجعلون الجمرك في القنطرة لا في رفح؛ إيذانًا بأن ما وراء ذلك ليس من مصر، حتى صار من العبارات المألوفة عند أهل سيناء وعند مجاوريهم من المصريين أن يقال: هذا من الجزيرة، وهذا من وادي النيل، كأنهما إقليمان منفصلان.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرمضان في الأدب العربي والإسلامي
انسحاب الأهلي وعلاقته بإعلان أبو تريكة
الأديب التركي سزاني قراكوج: كيف نحقق البعث الإسلامي؟!
ولفت البنا إلى خطورة الاستعمار الإنجليزي على سيناء بقوله “مرت بنفسي هذه الخواطر جميعًا، فأحببت أن أنبّه الساسة الكبار والساسة الصغار وأبناء هذا الشعب إلى الخطر الداهم العظيم الذي تخفيه هذه الأفكار الخاطئة، ولا أدري كيف نقع في هذا الخطأ الفظيع مع أن القرآن الكريم نبّهنا إليه ولفت أنظارنا إلى ما في هذه البقاع من خير وبركة وخصب ونماء؟ وأنها إنما أجدبت لانصرافنا عنها وإهمالنا إياها، فذلك قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} (المؤمنون: 20).
البنا يكشف عن كنوز سيناء
ويحذر من أطماع اليهود قبل قيام إسرائيل
من العجيب أن يكشف البنا ما في باطن أرض سيناء من مخزونات المعادن والبترول والمياه العذبة في منتصف القرن العشرين، وكأنه جيولوجي أريب يمسك بأجهزة الاستشعار التكنولوجية التي لم تُكتشف إلا في نهاية ذلك القرن، ثم درس طبقات أرضها واختبر قابليتها للزراعة كأفضل ما يكون علماء الأراضي، ويقرر أنواع المحاصيل المناسبة لتربتها كأفضل خبراء الإنتاج النباتي، ثم يحذر من تربص اليهود بسيناء قبل أن تقوم لهم دولة كأدهى ما يكون السياسي المستشرف للمستقبل.
يقول البنا “إن سيناء المصرية تبلغ ثلاثة عشر مليونًا من الأفدنة، أي ضعف مساحة الأرض المنزرعة في مصر، وقد كشفت البحوث الفنية في هذه المساحات الواسعة أنواعًا من المعادن والكنوز فوق ما كان يتصور الناس، واكتُشف فيها البترول حديثًا، ويذهب الخبراء في هذا الفن إلى أنه في الإمكان أن يُستنبط من سيناء من البترول أكثر مما يُستنبط من آبار العراق الغالية النفيسة، وأرض سيناء في غاية الخصوبة وهي عظيمة القابلية للزراعة، وفي الإمكان استنباط الماء منها بالطرق الارتوازية وإنشاء بيارات يانعة على نحو بيارات فلسطين تنبت أجود الفواكه وأطيب الثمرات، وقد تنبَّه اليهود إلى هذا المعنى ووضعوه في برنامجهم الإنشائي، وهم يعملون على تحقيقه إذا سنحت لهم الفرص، ولن تسنح بإذن الله”.
البنا يقدّم خطة استراتيجية
لتنمية سيناء
وختم البنا مقاله بإرشاد الحكومة المصرية إلى خطة شاملة موجزة وجزلة لتعمير سيناء كأفضل من مارس التخطيط القومي وقبل إنشاء معهد التخطيط القومي في عام 1960، قائلا “فمن واجب الحكومة إذَن أن تعرف لسيناء قدرها وبركتها، ولا تدعها فريسة في يد الشركات الأجنبية واللصوص والسرّاق من اليهود، وأن تسرع بمشروع نقل الجمرك من القنطرة إلى رفح، وأن تقيم هناك منطقة صناعية على الحدود، فلعل هذا من أصلح المواطن للصناعة، ويرى بعض المفكرين العقلاء أن من الواجب إنشاء جامعة مصرية عربية بجوار العريش تضم من شاء من المصريين، ومن وفد من فلسطين وسوريا والعراق ولبنان وشرق الأردن وغيرها من سائر أوطان العروبة والإسلام، ويرون في هذه البقعة أفضل مكان للتربية البدنية والروحية والعقلية على السواء. وحرام بعد اليوم أن تظن الحكومة أو يتخيل أحد من الشعب أن سيناء برية قاحلة لا نبات فيها ولا ماء، فهي فلذة كبد هذا الوطن ومجاله الحيوي ومصدر الخير والبركة والثراء، ونرجو أن يكون ذلك كله بأيدينا لا بأيدي غيرنا”.
إسرائيل تحتل سيناء
ويقع ما حذر منه البنا
حاول ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، احتلال سيناء في عام 1948 مع الإعلان عن قيام الدولة، ثم احتلها في عدوان 1956 مدة ثلاثة أشهر، وخرج بضغط من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وبعد حرب الأيام الستة عام 1967، احتلت إسرائيل سيناء وأقامت في ربوعها 19 مستعمرة، ثم خرجت منها بعد 15 عاما من الاحتلال في 1982، بموجب معاهدة السلام التي وقعها الرئيس أنور السادات في 1979 مع رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغن، برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. وكان إخلاء المستعمرات من المستوطنين الصهاينة هو الجزء الأصعب والأكثر تعقيدا في عملية الانسحاب من سيناء، وخاصة من مستعمرة ياميت، أكبر تلك المستعمرات، التي أقامها الكيان المحتل على أنقاض قرى أهالي سيناء عام 1975 في الجانب الشمالي الشرقي من شبه جزيرة سيناء، على شاطئ البحر المتوسط بين مدينتي رفح والعريش.
كان الهدف من إنشاء ياميت، ومعناها بالعبرية عروس البحر، استغلال خيرات سيناء في توطين ربع مليون إسرائيلي، وتطويق قطاع غزة والحد من توسعه وحصاره بالتجمعات السكنية الإسرائيلية، عسقلان في الشمال وبئر سبع من الشرق وياميت من الغرب، وهو ما يفسر بناء إسرائيل هذه المستعمرة بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، والإعلان عن بناء مطار دولي بها، وميناء تجاري كبير، وصناعات متطورة، ومنتجعات سياحية، وسكك حديدية.
وكان إخلاء المستوطنة معقدًا، لأن فيه تناقضًا مع قيم الاستيطان الصهيوني، ودفعت الحكومة الإسرائيلية تعويضات مالية لاسترضاء السكان الذين تم إجلاؤهم من منازلهم في سيناء، ورغم ذلك رفض كثير منهم أوامر الإخلاء، وقامت قوات الجيش بإخلائهم قسرًا بعد تحصنهم في منازلهم. ونصت معاهدة السلام في البداية على بيع المستوطنات وملحقاتها من المدارس والمستشفيات والملاجئ والمزارع والمصانع إلى مصر، لكن في اللحظات الأخيرة قررت الحكومة الصهيونية هدم المستوطنات بالكامل وتفجير مبانيها وقطع أشجار الزيتون والنخيل والبرتقال والخوخ، حتى لا يستوطن المصريون مدنًا في سيناء تكون قريبة من الحدود مع إسرائيل وتهدد أمنها في المستقبل.
أنشأت حركات يمينية صهيونية “حركة وقف الانسحاب من سيناء”، وجلبت آلاف الإسرائيليين إلى المستوطنات في سيناء لمنع إخلائها. وفي الأول من إبريل/نيسان 1982، أعلن الجيش مدينة ياميت البحرية منطقة عسكرية مغلقة، وبدأ عملية إخلاء ياميت من السكان والآلاف من أنصارهم المتحصنين في المنازل وعلى أسطحها وفي الملاجئ بقوة عسكرية مكونة من 5 آلاف جندي، باستخدام أقفاص الاحتجاز وخراطيم المياه والرغوة. وتسببت الصور القاسية لعملية الإخلاء في إثارة ضجة عامة في إسرائيل.
إسرائيل تكتشف كنوز سيناء
التي بشر بها حسن البنا
جاء في كتاب “سيناء في مواجهة الممارسات الإسرائيلية” للكاتب السيناوي قدري يونس العبد، طباعة دار المعارف 1986، أن الحكومة الإسرائيلية في أواخر أغسطس/آب عام 1967، كلَّفت فريقًا من علماء الجغرافيا والجيولوجيا والاقتصاد والهندسة، وبإشراف من وزير الداخلية، بدراسة ومسح شبه جزيرة سيناء مسحًا شاملًا، لتحديد الثروات الطبيعية فيها، وأنشأت مركزًا ميدانيًّا لدراسة البيئة في منطقة شرم الشيخ.
وبعد سنوات من استغلال تلك الكنوز، أعلن رئيس مجلس الوزراء المصرى الأسبق ممدوح سالم أن مصر تزمع مطالبة إسرائيل بمبلغ 2.1 مليار دولار، عبارة عن قيمة بترول سيناء الذي حصلت عليه إسرائيل منذ احتلالها سيناء عام 1976، إضافة إلى اكتشاف حقول بترولية جديدة. وذكرت صحيفة معاريف العبرية، في عددها الصادر يوم 14 فبراير/شباط 2013، في تقرير بعنوان “القاهرة تصعّد من لهجتها ضد إسرائيل”، أن مصر تطالب الأمم المتحدة بإلزام الدولة العبرية بدفع تعويض قيمته 480 مليار دولار، مقابل النفط الذي نهبته من سيناء وناتج الأراضي الزراعية والمصايد السمكية والمناجم المعدنية والفيروز والذهب والرمال البيضاء التي استغلتها أثناء احتلالها سيناء خلال 15 عاما (1967-1982). هذا ما كشفه وحذر من عواقبه حسن البنا في عام 1946، وستظل الأطماع قائمة حتى تنفيذ خطة التنمية الشاملة التي رسمها البنا.