إعادة تدوير القول الغربي!

تنوء المنطقة العربية بحِمل نُخبِها الحاكمة المفروض قسرًا على سطح أحداثها السياسية والثقافية والإعلامية والفكرية.
ومن أعراض ذلك استفحال ظاهرة المبالغة والشطط في التناول والتعاطي السياسي والإعلامي مع كل الواردات السياسية والإعلامية والبحثية الآتية من الغرب ومن إسرائيل دون تمييز قيمة الشيء وأهميته.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsانسحاب الأهلي وعلاقته بإعلان أبو تريكة
الأديب التركي سزاني قراكوج: كيف نحقق البعث الإسلامي؟!
في ليلة القدر.. متى تعود الأمة ذات قدر؟
من المحزن أن تصبح المنطقة مسرحًا لإعادة تدوير “سقط القول” الغربي، إنه اللغو السياسي الذي لا يعتدّ به ولا تحصل منه فائدة ولا نفع؛ لأنه لا يصدر عن رؤية أو فكر.
وعلى الرغم من ثراء المنطقة العربية بشريًّا وماديًّا، وأصالة حضاراتها وتراثها، ومحورية دورها ورسالتها وموقعها، فإن قبلتها الآن وبوصلة أحداثها وصناعة القرار بها كل ذلك أصبح موجهًا حصرًا شطر الغرب، حتى أضحت المنطقة إما مرتعًا لصدى الصوت الغربي وإما ردًّا عليه.
بعض الساسة والأكاديميين والمسؤولين عن القنوات الفضائية يتفاعل مع كل تقرير أو تصريح أو بحث أو منشور صحفي غربي، ويتعامل معه بقداسة وكأنه حقيقة مطلقة، وواقع لا بد من حدوثه، وبالتالي يشرع في مناقشته والرد عليه والتحذير منه، فيقدم الساعات المرئية والمساحات المكتوبة على الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي والإنترنت، ليساهم بعلم أو بغير علم في دوران المجتمع العربي (المفعول به) في فلك الرجل الغربي (الفاعل).
دائرة الردّ
صحيح “أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده” كما يقول ابن خلدون، إلا أن ذلك لا يفسر حالة التهافت والاهتراء والاستلاب والتبعية والشعور بالدونية والانصياع والتخبط في قرارات وسياسات مراكز اتخاذ القرار العربية.
وكأن هناك حالة تعزيز وترسيخ إعلامي وسياسي عربي لفكرة هيمنة وتفوق الرجل الأبيض وجيبه الاستعماري في المنطقة، والدليل على ذلك أن كل ما يدور سياسيًّا وإعلاميًّا وما يطرح فكريًّا على الساحة العربية الآن هو في دائرة “رد الفعل” للقرارات والتصريحات والتقارير الخارجية.
والاستثناء العربي الوحيد الموجود في دائرة الفعل و(ليس رد الفعل) خلال عدة أعوام ماضية جاء من حركات المقاومة عبر عمليتى “طوفان الأقصى” في غزة، و”ردع العدوان” في سوريا. ورغم أن العملية الثانية كانت من آثار الأولى فإنها نجحت خلال 11 يوما في تحرير بقعة تاريخية ومفصلية عريقة وإزاحة نظام دموي استمر حكمه أكثر من نصف قرن.
وفي القلب من دائرة “الفعل” لعملية طوفان الأقصى كان صمود المقاومة ومعها شعب غزة أكثر من 14 شهرًا، ولولا تلك الصلابة وذلك التحدي لشاهدنا ترجمة عملية لتلك الاقتراحات والنظريات والسيناريوهات غير المنطقية التي صدرت بالغرب وتلقفتها النخب الرسمية ووسائل الإعلام العربية بالترويج والشرح والتفسير باعتبارها أمرًا واقعًا لا بد من حدوثه.
ضجيج معلوماتي
ليت المسؤولين عن السياسة والإعلام ومراكز البحث في المنطقة يعلمون أن “فن المعرفة هو معرفة ما يجب تجاهله” كما يقول جلال الدين الرومي، فلقد أصبح طوفان التصريحات اليومي وذلك الضجيج المعلوماتي وتلك الفوضى من التقارير، تشكل تحديًا كبيرًا أمام صناع القرار.
وذلك لتورّط مراكز البحث وأجهزة الإعلام وصناع المحتوى بوسائل التواصل في “ضجيج” المعلومات والتصريحات، في تجاهل وإسقاط ما هو مهم أحيانًا، أثناء النقل الدوري والترجمة المتلاحقة “للماجريات” اليومية والقرارات والتصريحات والتقارير والإصدارات البحثية الغربية التي لا تنقطع على مدار الساعة.
كمّ هائل من المعلومات التي يصعب فرز المهم منها وغير المهم دون الاستعانة بأنظمة فرز المعلومات والمختصين من أصحاب الكفاءات للتعامل مع هذا الكم الضخم من البيانات.
وقد تُسخر وسائل الإعلام والتواصل الساعات الطوال والأيام والأسابيع لمناقشة أفكار بعضها عبثي واقتراحات معظمها غير منطقي، وتصريحات عرضية أطلقها المسؤول الغربي بغير تفكير، فتوجِد لدينا سوقًا رائجة للمناقشة والمعايشة والتأثير سياسيًّا وإعلاميًّا، وهناك من يصطاد الألفاظ العابرة ثم يمنحها الوقت المستفيض، ويلبسها المعاني، ويبدأ في تفسيرها ومناقشتها دون وعي ودون داع.
كثير من المعلومات وقليل من المعرفة
وحديثنا السابق لا يعني التجاهل التام لكل التصريحات والتقارير والقرارات الغربية، ولكن المطلوب هو التعامل معها برشد وكفاءة حكم ودقة فرز، وفهم حقيقة ما قاله شكسبير: “عوّد نفسك على التجاهل فليس كل ما يقال يستحق الرد”.
وكثير من هذه المعلومات لا يحتاج إلى تفسير، وتجاهلها لا يؤثر بشكل مباشر في صناع القرار، ولكن غالبًا التأثير السلبي يأتي إذا أعطيت في التناول والعرض والمناقشة أكبر من حجمها، فالأمر بمثابة غيوم المعلومات الكثيفة التي تحجب حقيقة الشمس وتمنع من رؤية الواقع وتؤثر فعليًّا في التركيز والدقة في صناعة القرار.
كما أنها تساهم في شغل النخب والمجتمعات في ظل غياب المشروعات الوطنية الجامعة، بطوفان المعلومات والاهتمامات التي لا طائل منها.
صحيح أن تحليل تصريحات الساسة الفاعلين يعطي فكرة عن التنبؤ بالخطوات التالية، وفهم السياسات والاستراتيجيات، ولكن الاستغراق والمبالغة في تفسير الشارد والوارد والمهم وغير المهم يمكن أن يحدث سوء فهم، ويزيد من حجم المشكلات والتوترات ويمنع من رؤية ما يجب الاهتمام به ومشاهدته.
ولعل ما يجري الآن يبين حجم المبالغة في الردود العربية على تصريحات بعض الشخصيات الفاعلة دوليًّا، دون وضعها في سياق الحدث مع تجريدها من سيرة القائل وتاريخه وصفاته الشخصية، فهل من الطبيعي أن ينتفض الوطن العربي بهذا الشكل، الذي وصل إلى طلب بعض الحكام من أنصارهم النزول في الشوارع، والتعبير في وسائل الإعلام والتواصل، للرد على تصريح (صادم) ولكنه في النهاية عابر وضمن آلاف التصريحات التي اعتاد أن يطلقها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، وهو الرجل الذي قد اتهم في فترة رئاسته الأولى بإطلاق أكثر من 30 ألف “كذبة ومعلومة مضللة” روّج لها خلال ولايته، “بمعدل 21 كذبة يوميًّا”، وقد أحصى هذا الكذب فريق التحقق من المعلومات في صحيفة واشنطن بوست الأميركية.
وفي رأيي كان يكفي للرد على الأمر تصريح من المسؤول الأول في كل بلد تعرض له ترامب بالحديث، مع طيّ الصفحة والتفرغ لمهام الحكم.