نادر فرجاني.. تذكر مستحق في أربعينيته

مات المفكر الدكتور نادر فرجاني في آخر يوم من العام الماضي 2024، في ظروف غير عادية تعجز من التقاه وعرفه عن كتابة يستحقها. وكأنها ظلت تنتظر وسط تلاحق الأحداث العامة ذكرى أربعينية رحيله اليوم.
وما نشهده الآن بشأن فلسطين وحولها يستدعى أيضا تذكر نادر فرجاني، الذي كان معيدا شابا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، فأصبح مبكرا ضحية تشهير واضطهاد، لانخراطه بحماس وإخلاص يعز مثيلهما بين الأكاديميين في احتجاجات الحركة الطلابية اليسارية المعارضة بمصر مطلع السبعينيات، المطالبة بتحرير الأرض والإنسان، ومحاربة الظلم الاجتماعي والجهل والاتجار بالدين والتسلط والفساد، ولو تخفى تحت عناوين وشعارات الاشتراكية والتقدمية والقومية العربية والعلم والإيمان.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsانسحاب الأهلي وعلاقته بإعلان أبو تريكة
الأديب التركي سزاني قراكوج: كيف نحقق البعث الإسلامي؟!
في ليلة القدر.. متى تعود الأمة ذات قدر؟
لم يحظ من ارتبط اسمه وجهده بوثيقة بحثية عالمية مهمة عن أحوالنا، مؤلفا رئيسيا للتقرير الأول الأساس للتنمية الإنسانية العربية لعام 2002 الصادر عن الأمم المتحدة وحائزا على تقدير دولي رفيع، بوداع يليق بمكانته العلمية واستقامته الفكرية، وشجاعته في انتقاد من حكموا مصر منذ شبابه الباكر ونخب تواطأت ضد شعبها على اختلاف ما تقول به.
الاحتلال والاستبداد
يعيقان التنمية
عند إعادة قراءة هذا التقرير، الذي ارتبط باسمه، يتضح كيف جاء بتشخيص دقيق لتخلفنا وبؤسنا، على نحو يجمع برودة الموضوعية والعلم وحرارة الواقع والسياسة العملية. وكيف أوصى بإصلاحات وتغييرات لا تحتمل التأجيل لكسر احتكار السلطة والثروة، ومعالجة ضعف التعليم وقصور المعرفة وغياب قيم وآليات الديمقراطية، التي ما زال النظام الرسمي العربي، بدوله المحورية، عاجزا عن تحمل مسؤوليته عنها.
ما زال هذا التقرير يستأهل اليوم الاهتمام مع انكشاف هذا النظام العربي وكأنه رجل العالم المريض المتخلف. فاته على محطة القرن العشرين قطار التخلص من الاستعمار المباشر، ثم الديمقراطية وتداول السلطة بمحطة المنعرج نحو القرن الحادي والعشرين. ووقف عاجزا ذاهلا، إن لم نقل متواطئا، أمام أحداث جسام، وصولا إلى حرب الإبادة على غزة، ومرتبكا إزاء عودة “اليمين الترامبي” الجامح بجنون.
لننتبه إلى ما خطه عن الاحتلال الإسرائيلي بوصفه تحديا رئيسيا يعوق التنمية في فلسطين، وتوظيف التسلط عندنا لاستمرار الاحتلال كي يديم قهره للمواطن. وفي الجوهر هنا استحالة التنمية، وليس المقصود بالطبع النمو المشوه غير المتوازن أو العادل المنزوع الحقوق والحريات، مع إخضاع الناس بعدوان الاحتلال الأجنبي وقرينه حليفه الاستبداد المحلي.
بلا وداع
ولو من عامة الناس
لم يتح لمحبيه وأصدقائه وزملائه وتلاميذه وعارفي فضل علمه وداعه عند دفن الجثمان، أو في تجمع عزاء ولو لعامة الناس. وباستثناء تدوينات عن رحيله بمواقع التواصل الاجتماعي، غاب وداعه عن الصحف والتلفزيونات.
حتى الأهرام ضنت عليه بخبر يعلن رحيله، وهو الذي أثرى صفحة الرأي بجريدتها الرئيسية اليومية أسبوعيا بمقالات بين 2011 و2014، قبل منعها بشكل غير لائق، يسيء إلى الجريدة، لا إلى الكاتب الذي استهدفه. وربما فقط ببضعة أسطر باللغة الإنجليزية، ظهر خبر الوفاة “بالأهرام أون لاين” الإلكتروني.
وجاء منع نشر مقالاته بعد 19 مايو/أيار، وقبل انتخابات رئاسة 2014، وبعد أسابيع معدودة من مقاله الجريء الدقيق التشخيص “المشير وتوجهات الثورة” بعدد 24 مارس/آذار لهذا العام، وحمدا لله أنه ما زال باقيا متاحا بموقع الجريدة الإلكتروني.
وقد توقع ما ستؤول إليه أزمة مصر الاقتصادية مع الاستمرار في النهج الكارثي لسنوات مبارك الأخيرة، والإفراط في الاقتراض من الخارج بلا رقابة، والتضحية بجيلين أو أكثر، والتعامل مع الطاقة البشرية وكأنها عبء ونقمة لا ميزة ونعمة، مستشرفا كزرقاء اليمامة إزالة القيد الدستوري على مدتي وسنوات رئاسة مصر.
خسر قراء الأهرام، بل الصحافة المصرية والعربية إجمالا، إسهامات نادر المقدرة المدعمة بخبرته العلمية العالمية في قضايا التنمية البشرية وإنتاج المعرفة والهجرة إلى النفط، وتعففه عن نفاق السلطة، حين انتقلت مقالاته دفاعا عن الناس وثورة يناير من نقد الرئيس الراحل محمد مرسي والإخوان إلى المشير “رئيس الضرورة” بالتعبير البائس لحسنين هيكل.
خسرنا كتابة موضوعية لا تخلط هذا بذاك، ولا تأخد بالشبهات وتحرض. وكمثال في 10 يوليو/تموز 2018 نشر تدوينة تدعو إلى إطلاق سراح السيدة علا القرضاوي وتدين حبسها، مذكرا: “نشرت علنا فيما سبق، مع الاحترام الواجب بالطبع، نقدا شديدا لبعض مواقف الشيخ القرضاوي السياسية، ولكن …”.
وعلى نحو خاص، شعرت بغصة مع منع نشر مقالاته، لأنني دعوت في الأهرام تحت عنوان “صحافة الثورة” 4 إبريل/نيسان 2011 إلى تغيير يشمل إفساح المجال لأقلام محترمة ظل محرما عليها نشر الرأي على صفحاتها، وذكرت بأسماء متنوعة الاتجاهات بينهم نادر. أقلام خلفها عقول وضمائر تتوجه أولا إلى القارئ وفي خدمته، لا إلى سلطة أو حاكم لمنافع شخصية. وأوكل إلى رئيس التحرير حينها الزميل عبد العظيم حماد الاتصال به وآخرين، وأملا في عهد جديد، سرعان ما اتضح أنه فجر كاذب.
مع رحيل نادر تذكرت كلماته بغلاف الطبعة الثانية لكتابي “حرية على الهامش: في نقد أحوال الصحافة المصرية” الصادرة مطلع 2012، وكيف بدا متفائلا بمستقبل صحافتنا إذ كتب: “الدرس الأكيد الذي نستخلص من الكتاب هو ضرورة صوغ البنى القانونية والسياسية لمصر ما بعد ثورة يناير 2011 بما يكفل حرية الحصول على المعلومات مطلقة، وضمان استقلال وسائل الإعلام عن سطوة السلطة والمال كليهما”.
ثلاثية الحصار
والتهديد والتجويع
يؤسف ويؤلم أنه عاش سنوات عمره الأخيرة أقرب إلى العزلة، إذ أوصد على نفسه باب منزله إلا فيما ندر. وهو ما يستدعى المقارنة مع عزلة الجغرافي الموسوعي جمال حمدان، وإن خرج نادر إلى فضاء التواصل الاجتماعي معبرا بجرأة، وأحيانا بحدة، عن سخطه وغضبه من الأوضاع العامة.
لم يسلم من إحكام الحصار والتهديد والتجويع، وإن لم يجرؤوا على الزج به في المحابس كالأكاديميين الراحلين حازم حسني ويحيى القزاز.
ومع هذا، تمسك بالجهر بآراء تخالف الطريق الذي سلكته البلاد على صعيد الاقتصاد السياسي، وتوقع مبكرا ما سيحيق بالمصريين ومعيشتهم، وحذّر من المآلات وانعكاساتها ليس على مصر وحدها، بل والقضية الفلسطينية والعالم العربي.
ضاقت سبل العيش، حتى اضطر إلى التفكير في العودة إلى العمل بالخارج بعدما جاوز عمره السبعين. وأبلغني صديق مشترك بهذه الرغبة التي أسر إليه بها، فسعيت بدون نتيجة لدى أصدقاء بالجامعات التونسية. وفوق هذا، لم يكن هو ولا أحد منا على ثقة بالسماح بمغادرته البلد، كغيره من خيرة أبناء وطنه وأميزهم.
*
التقيته للمرة الأولى صيف 1989، وقتها كانت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في سنواتها الذهبية تواجه عواصف أزمة اعتقال اثنين من أعضاء مجلس أمنائها من اليساريين المتضامنين مع إضراب عمال الحديد والصلب، هما الراحلان الدكتور محمد السيد سعيد والدكتور محمد مندور.
ومن موقع أول أمين عام تنفيذي للمنظمة، بدا لي هو مع الراحل القاضي فالمحامي المحترم عادل عيد، الأقل إفراطا في الكلام بدون أفعال، والأوضح والأسرع في الذهاب إلى جوهر القضايا وحل المشكلات.
رحمه الله، يوما ما سيلقى ما يستحق من تقدير لانحيازه للناس والثورة والحقيقة، ولشجاعته النادرة. وأيضا لما تحمل من منغصات وأعباء وآلام، وحسرة على تغيير لم يتحقق في حياته.