مآلات الدولة القومية في الغرب

تناولت سابقًا الخلفيات التاريخية والمعرفية للدولة القومية والنظام الدولي، ومسار نشأة وقيام وخصائص نموذج الدولة القومية الغربية، وعلاقتها الجذرية بالمشروع الاستعماري الغربي. وقد تجاوز دورها النظام الأوروبي وجواره، إلى عولمة نموذجها ورؤيتها المعرفية العلمانية الإمبريالية، لتصبح أساس نظام دولي دموي جوهره الاستعمار والاحتلال والاستيطان والإبادة، وتدمير حضارات إنسانية دعمت مليارات البشر قرونًا مديدة.
استقطبت هذه الظاهرة اهتمام باحثين ومؤرخين وفلاسفة وعلماء اجتماع، في حين يشهد العالم منذ عقود تغيرات تاريخية “تكتونية” وتحديات كبرى لنظام الهيمنة الغربية ونموذج الدولة القومية بركائزهما: الإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والفاشية. وهي تحديات دفعت مؤرخًا فرنسيًّا لتوقع أن تكون الدولة القومية مجرد فاصلة بصفحات التاريخ.
أوروبا والتاريخ
تتابع الاهتمام بمستقبل الغرب إجمالا، منذ وربما قبل، صدور كتاب للفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر بعنوان “سقوط الغرب” بالألمانية، و”أفول الغرب” بالإنكليزية، عام 1918، عشية أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وأهوالها وكوارثها كحرب إمبريالية أوروبية بامتياز، فأحدثت تدميرًا هائلًا غير مسبوق تاريخيًّا بالقارة، وربما ظن أهلها أنها لن تتكرر!! رصد شبنغلر انهيارًا مجتمعيًّا، ورفض الرؤية التاريخية المتمركزة أوروبيًّا وعقيدة سيرورة منحنى التاريخ نحو التقدم دائمًا، والتقسيم الأوروبي المرحلي للتاريخ، فالتاريخ لم يبدأ بأوروبا ولن ينتهيَ بها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلنتحدث بصراحة.. وداعا حل الدولتين
الحويني.. محدِّث ملأ الدنيا وشغل الناس
رمضان في القاهرة القديمة!
وأعمال المؤرخين والمفكرين هنا أكثر من أن يحاط بها. وتمثل أعمال المؤرخ والديمغرافي والأنثروبولوجي الفرنسي (اليهودي)، إيمانويل تود، بعض أهم الاستشرافات لمستقبل الغرب والدولة القومية، واتخذ أحدث كتبه عنوان: “هزيمة الغرب” (2024).
تكمن أهمية منهج تود في توظيف الثقافة والدينامية الدينية والأنثروبولوجية والتاريخ في استنطاق معطيات ومؤشرات جيوسياسية، عوضًا عن منهج صراع القوى وتمددها السائد بالدراسات الاستراتيجية وتحولات النظام الدولي. وقد تجنَّب نظرية صدام الحضارات في الأدبيات الأميركية وخطاب اليمين العنصري بأوروبا.
أسفر قيام الدولة القومية بالغرب عن مستجدات اجتماعية وسياسية واقتصادية ودستورية أدت أدوارًا مهمة في تعزيز المشروع الإمبريالي وتمدده حول العالم. هذه المستجدات أطلقتها أحداث مفصلية بالتاريخ الأوروبي أسست للغرب الليبرالي: “الثورة المجيدة” الإنكليزية (1688)، وإعلان الاستقلال الأميركي (1776)، والثورة الفرنسية (1789).
لكن تاريخ الغرب إجمالًا ليس ليبراليًّا، لارتباطه الجذري بمشروع الاستعمار، وبالفاشية الإيطالية والنازية الألمانية وشقيقتهما العسكرة الإمبريالية اليابانية. وهي ظواهر تختفي لتعود تطل برؤوسها بين مرحلة وأخرى.
تصفير المصفوفة الدينية
تُشخّص اعتلالات الغرب في عدة مظاهر أبرزها أفول الدولة القومية، وأدّى تفاقم العلمنة إلى إفلاس و”تصفير” المصفوفة الدينية (البروتستانتية) التي أطلقت شرارة الدولة القومية، وشكّلت محرك مشروع الاستيطان والإبادة، ومهّدت معتقداتها وأخلاقياتها لقيام الرأسمالية المبكرة، بحسب الألماني ماكس فيبر (1864-1920) والإنكليزي ريتشارد هنري توني (1880-1962).
وكان ذلك عبر التعليم والتماس الخلاص الديني والاصطفاء الإلهي و”التقوى الحضرية” واجتناب السخط الإلهي، والالتزام بأخلاق الانضباط والعمل وخفض الاستهلاك والادخار وتأجيل المتعة، لتكوين الرأسمال وإعادة استثمار عوائد الإنتاج، مما شكّل روح الرأسمالية المبكرة، خاصة بمجتمعات الاستيطان الأوروبي الكبرى بمستعمرات العالم الجديد بعد اضطهاد ديني ومجاعات رافقت عصر الاكتشافات الجغرافية والاقتصاد المِركَنتيلي الأوروبي قبل الثورة الصناعية.
لذلك، فالمتغيّر المركزي في ظاهرة الغرب والدولة القومية هو الديناميات الدينية التي تظهر أن غياب البروتستانتية، وانهيار الثقافة البيضاء الأنجلوسكسونية البروتستانتية تدريجيًّا، قادا إلى اضمحلال قوة الغرب وخصوصيته، كما عرفها العالم قرونًا.
اقتصاد غير إنتاجي
يُذَكّر تود بأنه إذا كانت البروتستانتية شكّلت صعود الغرب البروتستانتي، فموت البروتستانتية وراء التفكك والهزيمة. ويجد تشابهًا بين تاريخ روسيا الثقافي وتاريخ الغرب البروتستانتي. فالمشترك بين البروتستانتية والشيوعية اهتمامهما البالغ بالتعليم، فقد طوّرت الشيوعية بأوروبا الشرقية طبقات وسطى جديدة.
وكان العامل الأهم في صعود الغرب ارتباط البروتستانتية بمحو الأمية والتعليم واللغات المحلية، كما ارتبط قيام الدولة القومية، خاصة بألمانيا، بدعوة مارتن لوثر زعيم الإصلاح البروتستانتي إلى ترجمة الكتاب المقدّس إلى الألمانية، وفي إيطاليا بكتابة الأدب والثقافة والنهضة بالإيطالية بدل اللاتينية.
ومع تصاعد التوجه نحو اقتصاد المعرفة والاقتصاد الخَدَمي (غير الإنتاجي)، وانتقال مصانع إنتاج السلع بعيدًا خارج دول الغرب (التعهيد)، تراجع التصنيع محليا وعجزت دول “الناتو” عن سد حاجة أوكرانيا، وفرغت مخازن جيوشها مبكرًا.
لدى اندلاع حرب أوكرانيا في 22 فبراير/شباط 2022، كان الناتج المحلي الإجمالي لروسيا وحليفتها بيلاروسيا معًا يعادل 3.3% فقط من إجمالي الناتج المحلي بدول الغرب الجماعي (دول الناتو واليابان وكوريا الجنوبية). وكانت روسيا بهذه النسبة الضئيلة تنتج أسلحة وذخائر أكثر من المعسكر الغربي بأسره، وهي إذ تتقدم في الحرب على الأرض، تطرح شكوكًا حول صحة مفاهيم الاقتصاد السياسي النيوليبرالي السائدة ومستويات الناتج المحلي.
أعراض العدمية
ومع التدهور الأخلاقي واستشراء الغضب والعنف الأهلي، تفاقمت مستويات الانتحار وجرائم القتل العشوائي بالأسواق والمدارس ورياض الأطفال وأماكن العمل وتجاوز معدل الوفيات بالولايات المتحدة نظيره في روسيا. وفي خلفية ذلك كله، عدمية إمبراطورية وشغف بالحروب يغذيه المُجَمّع الصناعي العسكري عبر تمويله “السخي” لمراكز التفكير والأبحاث والحملات الانتخابية.
من الواضح أن وعيًا يفضي إلى الارتداد الديني يؤدي حتمًا إلى العدمية، وتتبدى تعبيرات ذلك في الحروب الأبدية والعنف، في أمريكا بخاصة، ورغبة جارفة في التدمير وإنكار الواقع. لم يعد للمعتقد الديني المطلق أثر وبقي الإنسان بلا كوابح ولا حدود ولا قيود، مطلِقًا غرائزه العدوانية. وهذا ما يفسر التصعيد الأمريكي للأزمات والحروب الخارجية، وكانت حرب الإبادة في غزة أحدث مثال لنطاق الرغبة في التدمير الناجم عن عدمية إدارة بايدن. ثم تلتها عدمية دونالد ترامب وتهديداته بفتح أبواب الجحيم على غزة، حتى بعد اتفاق وقف إطلاق نار، توسطت بلاده أشهرًا للتوصل إليه!
عنون تود آخر فصول كتابه بـ”العدمية الأمريكية: دليل غزة”. واعتبر دعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل عدمية وأعراضًا انتحارية لأمريكا المندفعة نحو العنف، وأن خسارة أمريكا في حرب أوكرانيا دفعتها إلى الهروب إلى دعم إسرائيل في إبادة غزة، مع تعطش إدارة بايدن للحروب.
يفاقم العدمية انهيار نظم التعليم ودمار الأسرة وتخلخل آليات الانضباط الاجتماعي. ومن أعراضها التحول الجنسي وقبله الثورة الجنسية الأنجلوأمريكية وثورة طلاب فرنسا (مايو 1968)، التي كرست وهم أن أوج عظمة الفرد في تحرره من الجماعة. وهكذا تحرر الغرب جماعيًّا من معتقداته الميتافيزيقية ومن الشيوعية والاشتراكية والقومية، ليعيش حالة فراغ. وأصبح الغربيون أقزامًا مقلدين، لا يجرؤون على التفكير بمفردهم، لكنهم يظهرون قدرتهم على التعصب كالمؤمنين بالعصور القديمة!
أصبح التحول الجنسي أحد رايات العدمية والسيولة المحدِّدة للغرب الآن، وخلفها دافع لتدمير الأشياء والبشر والواقع الموضوعي أيضًا. وإذا كانت أيديولوجية التحول الجنسي تزعم أن الرجل يصبح امرأة، والمرأة تصبح رجلا، وهو تأكيد كاذب، كتوكيدات العدمية الغربية الأخرى.
تآكل الديمقراطية
شهدت الدول القومية اختزال نظامها السياسي التمثيلي وتحول منظومتها الديمقراطية (الليبرالية) إلى نظام حكم أوليغاركية ليبرالية، لدى سيطرة الطبقة الرأسمالية النيوليبرالية وهياكلها العائلية على الإعلام والفضاء الثقافي والأكاديمي والرأي العام ومساحات التداول، فتراجعت الديمقراطية التمثيلية كثيرًا، وساد المجتمعات الغربية تحكم قوى بيروقراطية متنفذة وغير منتخبة، لا تعبّر عن الجسم السياسي السيادي، وإن توفرت معايير الحرية السياسية.
ومنذ انكسار الحملات الصليبية بشرق المتوسط وعودة فرسانها، وانتقال نموذج تنظيم فرقة “الحشاشين” معهم إلى المحافل الماسونية بأوروبا، ورغم تحفظ الكنيسة الكاثوليكية، سيطرت النخب والمحافل الماسونية على الحياة الأوروبية، خاصة بالقرن الـ19. ودارت التحالفات والصراعات وحروب القوميات والجمهوريات والملكيات بين “الإخوة الماسون” أو “البنائين الأحرار” من مختلف المحافل الأوروبية، كما رصدتها الصحافة المصرية آنذاك. وحتى في الولايات المتحدة، ومنذ ما قبل الاستقلال، انتمى معظم رجال الدولة والسياسة والقانون، وجميع الرؤساء الأمريكيين إلى المحافل الماسونية، باستثناء جون ف. كينيدي الكاثوليكي.
تواصل هذا النسق في الاجتماع السياسي الغربي حتى يومنا هذا، بل تعددت المحافل والنخب والنوادي السياسية، ومن أشهرها “المحفل الثلاثي” الذي يستقطب نخب أمريكا وغرب أوروبا واليابان، والاشتراكية الدولية، ومنتدى “داﭬوس” السنوي في سويسرا، ومؤتمر “ميونخ” السنوي للأمن بألمانيا، ومؤتمر/جماعة بيلدربرغ الأوروبي الأمريكي بهولندا. وتتعدد تعبيراتها كمنتديات ومراكز تفكير وازنة ولوبيات مصالح.
إجمالًا، اختزلت وقُيِّدت كثيرًا حرية الاختيار أمام مواطن الدول القومية، وتحددت البدائل فيما تقدمه النخب الموصوفة أعلاه فقط، التي لا تتيح للشعوب أي فرصة للتعبير عن همومها ومصالحها.
وكان تود قد تنبأ في كتابه “ما بعد الإمبراطورية”(2001)، بأن الولايات المتحدة تخسر مكانتها كقوة عظمى، بينما تبتعد عن القيم الديمقراطية التقليدية في المساواة والتكامل الاجتماعي وعالمية القيم والحقوق، ويتجاوز إنفاقها مواردها، وتثير سياساتها غضب حلفائها وأعدائها.
مؤشرات مضللة
لذلك، أصبح صعبا على الغرب أن يستوعب أنه لم يعد وحده في العالم، وعليه أن يفكر جيدًا فيما يقدم للبشرية بعد انحسار قيمه المرجعية وافتقاد نظامه السياسي الاجتماعي فاعليته ونجاعته.
جاءت حرب أوكرانيا كفخّ لواشنطن نصبته بيدها، وعملت بوعي على إنتاج الظروف المواتية لاندلاع النزاع وبمشاركة الأوروبيين، فدعموا تيارات قومية متطرّفة وأوصلوها إلى السلطة بأوكرانيا، وأرسلوا أسلحة وأعتدة عسكرية متطوّرة ومستشارين عسكريين، لتصبح عمليًّا وليس رسميًّا، عضوًا بحلف الناتو.
وكما أساء العالم قراءة الاتحاد السوفياتي بالسبعينيات مع توسع تدخله عسكريا بفيتنام وإثيوبيا وأنغولا وموزمبيق وغزو أفغانستان، فقد يسيء تفسير توسع نشاط أمريكا العسكري وعدوانيتها كمؤشر قوة صلبة متزايدة، بينما قد يكون مؤشر تراجع وأفول وافتقاد للقوة الناعمة، وهو ما أظهره انحسار التعاطف العالمي مع أوكرانيا والغرب ضد روسيا!