في مؤتمر ميونيخ: نهاية الشراكة الأوروبية الأمريكية!

منذ أن تأسس منتدى ميونيخ للأمن عام 1963، وهو ينعقد سنويًا للبحث في قضايا الأمن الأوروبي والعالمي تحت مظلة التحالف الغربي الذي يمثله حلف الناتو. لكن مؤتمر هذا العام، الذي بدأت أعماله مساء الجمعة 14 فبراير، فاجأ المراقبين وكل المشاركين بما يمكن وصفه بنهاية الشراكة الأوروبية-الأمريكية التي ظلت محتفظة بقوتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
أكدت كلمة نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، أنه لا توجد أي محاولة للتغطية على الانفصام التاريخي بين أوروبا وأمريكا اليوم، وهو الشرخ الذي بدأت ملامحه تتكشف مع بداية عصر ترامب. وأعلن فانس صراحة في كلمته: “أمريكا لن تسمح باستغلال أوروبا لها بعد الآن، فقد دافعت عنهم كثيرًا، وكانت موجودة في كل البؤر الساخنة، بينما اكتفى الأوروبيون بالمشاركة الخجولة. لقد حان الوقت لتتحمل أوروبا مسؤولياتها الأمنية وحدها”.
تحذيرات قبل الخطاب
في كواليس المؤتمر، كان هناك توجس مما سيحمله خطاب فانس. وحذر رئيس الحزب الديمقراطي والمرشح الأوفر حظًا للمستشارية فريدرش ميرتس، من أن فانس سيلقي خطابًا تصادميًا وقاسيًا للغاية. لكن ما أربك أجندة المؤتمر أكثر، كان تصريح ترامب قبل انعقاد المؤتمر بيوم واحد، حيث ألقى “قنبلة” سياسية بإعلانه أن محادثات سلام مرتقبة بين روسيا وأوكرانيا ستُجرى على هامش المؤتمر بمشاركة الولايات المتحدة، لكن دون إشراك أوروبا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsموقعة الضابط والسائق.. لماذا؟
الإعلانات التلفزيونية بين التأثير والإزعاج: هل حان وقت التغيير؟
شيخ الأزهر وقناة الأزهر للقرآن الكريم
لم يكتفِ فانس بذلك، بل رفض لقاء المستشار الألماني أولاف شولتس، مفضلًا مقابلة منافسه ميرتس، بحجة أن شولتس لم يتبقَ له سوى أيام معدودة في منصبه. وقد أثار هذا التصرف غضب شولتس، وماكرون، وكل الشركاء الأوروبيين، معتبرين أنه لا يمكن استبعادهم من المحادثات.
الخطاب الصادم
اعتلى فانس المنصة وسط توجس الحاضرين، الذين كانوا يخشون أن يعلن انسحاب القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا، كما توقع كريستوف هويزغن، رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن. لكن الخطاب، الذي استمر نصف ساعة، لم يتطرق إلى أي من الملفات الحساسة، ولا حتى إلى الحرب الأوكرانية، بل ركز بشكل أساسي على انتقاد الديمقراطية الأوروبية المتردية، على حد وصفه.
استشهد فانس بأمثلة مثيرة للجدل، مثل إلغاء الانتخابات في رومانيا، ومداهمات الشرطة في ألمانيا بسبب تعليقات على الإنترنت، وملاحقة معارض للإجهاض في بريطانيا بسبب آرائه. كما أشار إلى حالات من اسكتلندا والسويد، حيث زعم أن حرية التعبير والدين مهددة. ثم وجه حديثه للأوروبيين قائلًا: “الخطر الأكبر في أوروبا ليس روسيا أو الصين أو أي جهة خارجية، بل يكمن في الداخل عندكم”.
ارتباك وحيرة
كان الارتباك واضحًا على وجوه الحاضرين، الذين لم يعتادوا على سماع مثل هذه الانتقادات. فبينما كان المؤتمر يهدف إلى توحيد الصف والاستمرار في دعم أوكرانيا، جاء خطاب فانس ليحمل رسائل مغايرة تمامًا. لم يحظَ الخطاب بالتصفيق، بل زادت همهمة الجمهور، خاصة عندما تحدث عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الانتخابات الأوروبية.
تصاعد الغضب أكثر عندما انتقد فانس منظمي المؤتمر لأنهم لم يدعوا ممثلين عن الأحزاب الشعبوية، مثل “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) وحركة “اليسار الجديد” (BSW)، مشيرًا إلى أن “أوروبا يجب أن تصغي أكثر لأصوات شعوبها”. ثم أضاف بلهجة ساخرة: “إذا كنتم تخافون من ناخبيكم، فلا شيء يمكن لأمريكا أن تفعله لمساعدتكم”.
كان واضحًا أن فانس يجهل التاريخ الألماني، حيث أن الأحزاب الألمانية تتجنب التعاون مع أحزاب اليمين المتطرف بسبب التجربة النازية في ثلاثينيات القرن الماضي. لذلك، هناك إجماع بين جميع الأحزاب الألمانية على عدم تشكيل أي حكومة مستقبلية بالتحالف مع اليمين المتطرف.
اتفاق حول الهجرة واختلاف حول الديمقراطية
ربما كان الشيء الوحيد الذي اتفق فيه الحضور مع فانس، هو دعوته إلى تغييرات فورية في سياسات الهجرة، التي وصفها بأنها “الأكثر إلحاحًا”، واستشهد بحادث الدهس الأخير الذي وقع في ميونيخ قبل يوم واحد من انعقاد المؤتمر، مما عزز دعوته لمراجعة سياسات اللجوء والهجرة.
وصفت الأوساط الألمانية الخطاب بأنه “غير مسبوق” ويمثل “سابقة” في تاريخ مؤتمر ميونيخ الأمني. حاول وزير الدفاع الألماني الرد على الخطاب بلغة دبلوماسية، قائلًا إن ما حدث في رومانيا لا يمكن تعميمه على الديمقراطيات الأوروبية العريقة.
أما المستشار الألماني أولاف شولتس، فقد استبق خطاب فانس بالتشديد على أهمية الشراكة مع الولايات المتحدة، وأبدى تفهمًا لمطالب زيادة حصة ألمانيا في تمويل الناتو، حيث يطالب ترامب برفع النسبة إلى 5% من الناتج القومي. من جانبه، ثمن الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير الشراكة مع الولايات المتحدة، لكنه انتقد بشدة توجهات إدارة ترامب، معتبرًا أن “أمريكا لم تعد تحترم القواعد الدولية كما في السابق”.
ورغم أن فانس لم يرد مباشرة على شتاينماير، فإن رسالته كانت واضحة: “عليكم إصلاح ديمقراطيتكم أولًا قبل الحديث عن القوانين والقواعد”.
الملفت للنظر أنه عندما تولى بايدن السلطة في عام 2021، قال في خطابه أمام ذات المؤتمر: “الشراكة عبر الأطلسي عادت”. أما اليوم، وبعد خطاب فانس في عام 2025، يمكننا أن نقول إن الشراكة انتهت.