أوكرانيا الجديدة.. منجم للتعدين وليست قاعدة للحرب!

دونالد ترامب فولوديمير زيلينسكي
لقاء سابق بين ترامب وزيلينسكي في نيويورك (رويترز)

بعد ثلاث سنوات أوشكت على الاكتمال من الحرب الدائرة في شرق أوروبا، يعتقد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أن بلاده قدمت دعمًا أكثر مما ينبغي لأوكرانيا، وأن هذا الدعم بلا مردود حقيقي يرضيه أو بلا عائد اقتصادي يُذكر، وهي طريقة التفكير التي يعتمدها ساكن البيت الأبيض القادم من عالم المال والأعمال في حلوله وحساباته التي يطرحها لأي قضية سياسية.

منذ بدأت القوات الروسية في غزو أراضٍ أوكرانية في فبراير شباط 2022 شكلت المساعدات الأمريكية الجزء الأكبر من الدعم الذي تلقته حكومة “كييف”منذ إندلاع الحرب على أراض كانت تنتمي جميعها للاتحاد السوفيتي القديم، وكان طرفاها كيانا واحدا حتى 1991.

مقارنة ما قدمته “بلاد العم سام” بما منحته “القارة العجوز” لأوكرانيا الغنية بالمعادن والحبوب تكشف رؤية الرئيس “ترامب” للتعامل مع “المسألة الأوكرانية” التي يرى فيها الرئيس الملياردير فرصة استثمارية واعدة لا تنشغل كثيرا باعتبارات الأمن الأوروبي وتمدد روسيا نحو شرق أوروبا ونفوذها في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.

من يدفع أكثر؟

منذ بداية العمليات العسكرية في فبراير شباط 2022 تلقت الحكومة الأوكرانية من الولايات المتحدة الأمريكية نحو 119.2 مليار دولار أمريكي تتنوع بين مساعدات إنسانية واقتصادية وعسكرية تشمل توفير الأسلحة وأنظمة الصواريخ والتدريب والمعلومات الاستخبارية، بينما قدمت مؤسسات الاتحاد الأوروبي 52.1 مليار دولار خلال الفترة نفسها، فيما قدمت المانيا 18.1 مليار دولار والمملكة المتحدة 15.4 مليار دولار فيما قدمت الدنمارك وهولندا والسويد وفرنسا مجتمعة نحو 35.6 مليار دولار، ما يعني أن دول أوروبا قدمت بشكل منفرد 69.1 مليار دولار وهو ما يعني أن الاتحاد الأوروربي ودوله قدموا مجتمعين 121.2 مليار دولار وهو رقم يوازي تقريبا ما قدمته الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.

وهناك تفاوت واضح في أولويات المانحين لأوكرانيا ففي حين ركزت إدارة الرئيس الأمريكي السابق “جون بايدن” على الدعم العسكري لتعزيز موقف الجيش الأوكراني في ساحات القتال فإن دول الاتحاد الأوروبي ركزت على الدعم المالي والمساعدات الإنسانية والغذائية والأدوية.

المعادن أولًا

يرى الرئيس الأمريكي أن أوكرانيا ينبغي أن تكون منجمًا للمعادن النادرة والاستثمار، وليست قاعدة عسكرية متقدمة لحلف الناتو ويعتقد “ترامب” أن المصالح الأمريكية في أوكرانيا اقتصادية وليست عسكرية وأن المردود الذي يريده من إنهاء الصراع البعيد جغرافيا عن بلاده هو الاستثمارات والمزايا الاقتصادية.

وتنبع أهمية أوكرانيا من أنها ستقلل اعتماد أمريكا على استيراد المعادن النادرة من الصين التي تعتبر أكبر منتج للمعادن النادرة في العالم، وهي معادن تدخل في صناعات الصواريخ والمعدات العسكرية والبطاريات والأجهزة الالكترونية وكذلك في صناعات الطاقة النظيفة.

مع عودته للبيت الأبيض انتهى عهد المنح المجانية والعطاء دون ثمن ملموس، ولذلك ألقى”ترامب” للحكومة الأوكرانية ما يعرف بـ”اتفاقية المعادن” مقابل ما قدمته وستقدمه بلاده من مساعدات مالية وعسكرية. وخلال مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” الأمريكية قبل أسبوع كشف “ترامب” أنه طلب من الأوكرانيين الحصول على مقابل ما دفعته “واشنطن” من مساعدات لـ”كييف” بالحصول على حقوق “النفط والغاز وأشياء أخرى، أريد تأمين أموالنا، إنهم يمتلكون أراض ذات قيمة هائلة، وأخبرتهم أنني أريد ما يعادل 500 مليار دولار من المعادن النادرة، لا يمكننا الاستمرار في دفع هذه الأموال”.

الاتفاقية التي أعدتها إدارة “ترامب” بشكل منفرد ودون تشاور مع حكومة “كييف” تمنح الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات حق استغلال 50% من المعادن النادرة التي تتوفر في أوكرانيا خاصة ما يستخدم في الصناعات العسكرية والتكنولوجية مثل النيوديميوم، اللانثانوم، والسيريوم واليورانيوم، والليثيوم، وتتضمن الاتفاقية تعهد أوكرانيا بتوفير بيئة استثمارية مستقرة وآمنة للشركات الأمريكية العاملة في قطاع التعدين والصناعات القائمة عليه.

الاتفاقية التي رفضها الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” لم تشمل أي ضمانات عسكرية أو أمنية وإنما تحدثت بعبارات عامة عن استمرار الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وعندما طلبت “كييف” تعديلات تتعلق بتقليص نسبة حق الاستغلال، وبمدة الاتفاقية بتقليل عدد السنوات وبضمانات محددة رفضت واشنطن، فيما وصفه مسؤول أمريكي فضل عدم ذكر اسمه لوكالة “أسوشيتد برس” رفض الرئيس الأوكراني بأنه “قصر نظر”.

قبل أن تقف الحرب

لا يرغب “ترامب” في أن تكون أوروبا طرفا في ترتيبات ما بعد الحرب أو على الأقل لا تقف عائقا أمام المسار الذي يرغب فيه لإنهائها وفق شروطه ومصالحه وتفاوضه مع “بوتين”، ولذلك تصرف الرئيس الأمريكي وكأنه لا يرى القيادة الأوكرانية أو الاتحاد الأوروبي.

المثير في الأمر أن “ترامب” أعد خططًا للسيطرة الاقتصادية وقضم نصيب الأسد من “الكعكة الأوكرانية” قبل أن تقف الحرب التي يُعتقد على نطاق واسع أن توليه الرئاسة الأمريكية سيساعد في إنهائها بشكل أسرع حيث اتخذ موقفًا معارضًا للدعم الأمريكي لأوكرانيا خلال حملته الانتخابية متحديًا أنه سيوقف الحرب بعد توليه منصبه بأربع وعشرين ساعة فقط.

الساعات الأربع والعشرين مرت بالطبع فهي محض دعاية انتخابية لكن “ترامب” لم يضيّع وقتًا أو ينتظر تحقيق وعوده بوقف الحرب وأعد خطة لوضع قدم أمريكية اقتصادية وليست عسكرية على الأراضي الأوكرانية، وأعد مرافئ لاستقرار الدولار في السوق الأوكرانية وليس ثكنات للزي المموه على الحدود مع روسيا.

بالتوازي كانت تصريحات “ترامب” تضغط على “زيلينسكي” وتجعله في موقف عجز لم يكن يتوقعه من الداعم الأكبر لبلاده، فقد سعى “ترامب” للتمهيد لما تسفر عنه المفاوضات المرتقبة قبل أن تبدأ، وذلك بخفض توقعات الأوكرانيين تجاه مكاسبهم من توقف الحرب وتهيئتهم أنهم سيضطرون لتقديم تنازلات وأنهم لن يستطيعوا استعادة الأراضي التي استولت عليها روسيا في 2014 عندما ضمت شبه جزيرة القرم بعد استفتاء مثير للجدل أو حتى منطقتي دونيتسك ولوغانسك الواقعتين شرقي أوكرانيا، اللتين أعلن الانفصاليون فيهما جمهوريتين مواليتين لموسكو، أو حتى أراض أخرى، كما باعد “ترامب” بوضوح بين أوكرانيا ورغبتها الانضمام لـ”حلف الناتو” عندما قال إن أوكرانيا قد لا تنضم لحلف الناتو أبدًا وإن هذا غباء وإنه يتفهم موقف روسيا.

 القفز بعيدًا

لا يكترث “ترامب” لأعداد الضحايا والخسائر في أوكرانيا أو غزة ولذلك يرى في الحالتين فرص الاستثمار، ومكاسب الاقتصاد وليس الحقوق والتاريخ ومتطلبات الحياة والأمن ولذلك لم يجهد نفسه بتفاصيل رغبات الأوكرانيين واحتياجاتهم وسعى للتفاوض المباشر عبر اتصال هاتفي مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” وبعد رفض أوكرانيا لاتفاقية المعادن تسارعت وتيرة التقارب الأمريكي مع روسيا بحثا عن اتفاق أو صفقة توقف الحرب وتحقق المصالح الأمريكية في المنطقة، ما أفضى للاتفاق على لقاء مرتقب بين الرئيسين في المملكة العربية السعودية.

وبينما تلتقي وفود روسية وأمريكية في السعودية للإعداد للقمة الرئاسية يقف الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” في موقف المنبوذ بينما تجري ترتيبات لمستقبل بلاده بين “ترامب” و”بوتين” دون حضوره ومشاركته أو مشاورته، وربما يكون أحد الترتيبات وفق التوقعات هي إبعاده عن المشهد عبر انتخابات رئاسية بطلب روسي وموافقة أمريكية، والأرجح أن “زيلينسكي” الممثل الكوميدي السابق لن يكون له دور في “المنجم الأوكراني” المرجح أن تديره الولايات المتحدة الأمريكية بترتيب مع روسيا التي تسيطر على أراض تضم نسبة ليست قليلة من المعادن النادرة في “أوكرانيا الجديدة”.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان