من هنا حصل الشرع على شارة النصر!
لماذا لم يحكم سوريا أحد من إدلب مع أنها بوصلة الثورة؟!

خلال مئة عام كان هناك ثورتان قادتهما إدلب. الأولى ضدّ المحتل الفرنسي بقيادة إبراهيم هنانو. والتي سطّر فيها الثوار ملاحم من البطولة قلّ نظيرها. والثانية ضدّ حكم آل الأسد، وقادتها كانوا مجموع الشعب بأطيافه في المدينة. مع هذا لم يحكم سوريا رئيس خرج من إدلب حتّى يومنا هذا، فهي تنجب الثوار وتملك بوصلة دقيقة في تصنيف الرؤساء.
الرئاسة السورية خلال مئة عام
اقرأ أيضا
list of 4 itemsماسبيرو المشكلة والحل (6).. كيف نخطو على الطريق؟
“أملي لشعب التبت”.. الدالاي لاما ومأساة الأديان في الصين
اعتقال محمود خليل.. ذعر أحمر جديد في أمريكا
على مدى مئة عام من تاريخ سوريا اعتاد “بعض” رؤسائها على القيام بزيارة للمحافظات، تدعى في العرف “الشعبي العامي” جس نبض، لمعرفة مدى قبول الجماهير للرئيس من خلال طريقة الاستقبال. وقد مرّ على إدلب بعض هؤلاء الرؤساء المدنيين قبل حكم العسكر وبعده. أول رئيس لسوريا كان صبحي بركات بعد انتهاء حكم الملك فيصل عام 1922. تسلّم الحكم بعده فرنسوا بيير أليب (وهو الرئيس المسيحي الوحيد، ولم يدخل أثناء حكمه القصر الرئاسي) وبعده أحمد نامي، ومربط الخيل كان عند الشيخ تاج الدين الحسني، الذي تسلّم الرئاسة لفترتين انتخابيتين، إحداهما في “الجمهورية السورية الأولى” والثانية في “الجمهورية السورية المنتدبة”.
وقد قام الشيخ تاج الدين الحسني بجولة على المحافظات السورية في فترة رئاسته الثانية عندما “عيّنته فرنسا رئيسًا. لكنّ الشيخ تاج لم يصل إلى إدلب المدينة، فقد استقبله أهل أريحا بطريقة جعلته يعود أدراجه غاضبًا وخائفًا وناقمًا. اجتمع سكان البلدة قبل يوم من مجيء الرئيس، وجمعوا كلّ الحمير، والكلاب الشاردة وربطوها في مدخل البلدة، وربطوا أيديها إلى أعناقها في وضع التحيّة، وتخفَّى بعض الصبية بين الأشجار وهم يضربون على “الصفيح” ويغنون أغنية علّمهم إياها الكبار كانت تسخر من الرئيس “الشيخ” الذي يضع العمامة. (شيخ تاج يا بومة يا أبو لفة مبرومة.. شيخ تاج يا عرضا مالك بسوريا حصة).
الرئيس الثاني الذي غامر بزيارة محافظة إدلب هو الرئيس شكري القوتلي، وهو الرئيس الثامن لسوريا، وقد أطاح بحكمه رئيس الأركان حسني الزعيم، الذي جاء بعده تشكيلة من الرؤساء العسكر والمدنيين حتى تسلّم القوتلي الرئاسة في نهاية فترة “الجمهورية السورية الثانية” عام 1955 وكان رقمه الرابع عشر.
استُقبل القوتلي في إدلب وأريحا استقبالًا يليق برجل وطني عُرف بمبادئه، وأخلاقه، وحياده، ومحبته لوطنه.
الجمهورية المتحدة
بدأ بعد ذلك عهد الجمهورية العربية المتحدة بتنازل القوتلي عن الحكم للرئيس جمال عبد الناصر، وصارت سوريا تحت مسمى “الجمهورية العربية المتحدة”. لم يُستقبل رئيس على مرِّ التاريخ استقبالًا شعبيًّا حافلًا كما استقبل عبد الناصر، الذي لم تنزل صوره من على جدران البيوت والأماكن العامة حتّى أصبحت تهمة كافية للاعتقال في عهد حافظ الأسد. وبغض النظر عن الأخطاء التي ارتكبها عبد الناصر سياسيًّا في سوريا، ظلّ الشعب البسيط يحبّه ويراه الزعيم الأوحد وقد كان يوم وفاته يوم حداد عام في المحافظة حتّى أقيمت بيوت عزاء له في أريحا. كان أحدها في بيتنا. كانت المرة الأولى والأخيرة التي رأيت فيها دموع أبي يوم وفاة عبد الناصر.
وبحكم كوننا شعبًا عاطفيًا قبل أن نكون سياسيين، ظلّ عبد الناصر النموذج الذي نقيس به مواصفات الزعيم أو الرئيس بعد الانفصال ومجيء فترة “الجمهورية العربية السورية” التي توالى على الحكم فيها سبعة رؤساء قبل أن يستلم الحكم حافظ الأسد في 12 مارس/آذار 1971.
العهد البائد
ولأنّ النموذج الذي في أذهان الناس كان على مقاس عبد الناصر ومواصفاته، خرج الناس إلى الشوارع أثناء مرور حافظ الأسد في جولته وهم يحملون صور عبد الناصر، وازدحمت الساحة في أريحا بطريقة لم تستطع سيارة الرئيس المرور منها بسهولة. وقد غيّر حافظ الأسد رأيه ولم ينزل من السيارة ليلقي كلمة، وتابع طريقه إلى إدلب حيث كان ينتظره الناس هناك بحشد رافض أكبر من الحشد في أريحا وحيث تلقّى الصفعة التاريخية بالحذاء مما جعله يغادر مع موكبه بأقصى سرعة، ومنذ ذلك اليوم أصبحت إدلب “المدينة المنسية”. وقام الإعلام البعثي بالتعتيم عليها حدّ تزوير التاريخ ونسف ثورتها، وعدم ذكر أبطالها سوى في سطور هامشية في كتب التاريخ.
ثمّ أصبحت حاضنة الثورة الثانية، ومنبع الثوار.
حكم الفصائل المسلحة في إدلب
تحوّلت إدلب إلى منطقة صراع بين الفصائل المسلحة في سنوات الثورة الأولى إلى أن استتب الأمر لأبي محمد الجولاني الذي أعلن عن بدء معركة التحرير عام 2024 ولم يصدق أحد في ذلك الوقت أنّ هناك معركة حقيقية، أو أنّ راجمات الصواريخ ستتوقف حقًّا في سراقب عن رجم أريحا، أو أنّ الطيران الروسي وطيران أبو البراميل سينسحب من سمائها. لقد وصل الناس إلى مرحلة اليأس التام من سقوط النظام على الرغم من حشد المشايخ في المساجد للناس، وإرسال تعليمات للتعامل مع المعركة عبر المآذن وقبضات اللاسلكي التي لا يخلو منها بيت في المحافظة، فالناس هناك يستمعون إلى المرصد ليل نهار لمعرفة حركة الطيران والقصف المدفعي.
أحمد الشرع آخر الرؤساء الذين زاروا إدلب.
لم يكن مفاجئًا أن يقود الرئيس أحمد الشرع سيارته بنفسه، وينزل منها أمام الناس، ويقف بينهم. كما لم يكن مفاجئًا طريقة الاستقبال للرئيس. بدا الأمر وكأنّه أحد أبنائها المهاجرين العائدين إليها بعد اغتراب، إذ تحدّث إلى الناس في الشارع، ووعدهم بتلبية مطالبهم، وأولها إعادة الناس في المخيمات إلى منازلهم.
لا شكّ أنّ الشرع يتمتع بشجاعة استثنائية جعلته يزور اللاذقية، ويدخل عش الدبابير في طرطوس، وكان استقباله بحفاوة شعبية كبيرة مفاجئًا للكثيرين، لكن مالا يعرفه هؤلاء أنّ الشرع في زيارته إدلب أولاً حصل على شارة النصر، والضوء الأخضر، والحماية الشعبية اللازمة ليتابع طريقه لزيارة باقي المحافظات.
الرئيس الشرع محمولا على الأعناق في اللاذقية