“ديب سيك” يشعل حربا بلا دخان بين واشنطن والصين!

مع الساعات الأخيرة لعام “التنين”، واحتفال الشعب الصيني بإجازة ميلاد السنة القمرية لعام “الأفعى”، أشعلت بيجين حربا هائلة بلا دخان مع واشنطن.
عادة ما تدير الصين حروبا خفية مع الولايات المتحدة، في إطار التنافس التجاري والجيوسياسي على إدارة العالم. في هذه المرة أرادت تفجير سباق بالأسلحة الحاسوبية، وحرب باردة بوجه الرئيس ترامب، تولّد زلزالا تظل هزاته مستمرة لأطول مدَّة ممكنة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعام واحد يكفي لحسم مستقبل ترامب
اليسار العربي ليس يسارا ولا تقدميا
فائض تركي غير مسبوق في تجارتها مع العرب
لم تنفجر الحرب الحاسوبية فجأة، بل جاءت محسوبة بدقة، إذ انطلقت بعد أيام من وصول ترامب إلى السلطة، وعقب ساعات من توقيعه قرارات رئاسية تقضي بفرض قيود جديدة على الشركات التكنولوجية المتعاملة مع السوق الصينية، ووضعه قادة صينيين جُدد على قوائم تحظر معاملاتهم المالية وسفرهم بالخارج.
فقد أطلقت شركة “هاي فلاي” High-Flyer Quant الناشئة للذكاء الاصطناعي تطبيق “ديب سيك” Deep seek، القائم على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التخليقي الكمي، المفتوح المصدر مجانا أمام الشركات والأفراد، مستخدمة رقائق أقل تقدما وعددا من نظيرتها الأمريكية، لإنتاج القدرات التقنية نفسها للأنظمة الغربية المتطورة.
أحدث التطبيق حالة من الذعر بين الشركات الأمريكية، التي تجبر مستخدميها على دفع مبالغ طائلة مقابل خدماتها، وتطلب 500 مليار دولار من المستثمرين لتطوير أعمالها، بما أشعل حرائق في أسوق المال، أدت إلى خسائر أشد فتكا مما خلفته الحرائق المشتعلة في كاليفورنيا ولوس أنجلوس منذ بداية العام.
الاثنين الأسود
تعرضت البورصة الأمريكية لانهيار مفاجئ، أفقدها 969 مليار دولار مطلع الأسبوع الماضي، في ما يُسمي “الاثنين الأسود”. انخفضت أسهم 69 شركة تدير 70% من رأسمال صندوق المؤشرات المتداولة بقطاع التكنولوجيا المهيمنة على البورصات الدولية. خسرت عملاق تكنولوجيا الرقائق والذكاء الاصطناعي الأمريكية “إنفيديا” نحو 600 مليار دولار بقيمتها السوقية التي تتجاوز 3.2 تريليونات دولار خلال دقائق، وواصلت نزيفها على مدار الأسبوع، وخسرت 17% من قيمة الأسهم.
امتد فزع الأسواق إلى اليابان وأوروبا. تعرضت شركاتها الصناعية والتكنولوجية لخسائر متوحشة، بسبب شركة وليدة، جذبت خلال ساعات من تشغيل التطبيق 6 ملايين شخص، فلاقت إعجاب مديري كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية، الذين شهدوا بكفاءة التطبيق وقدرته على الأداء العالي.
النقطة الأهم التي نظر إليها المختصون أن التكلفة الرخيصة للتطبيق، تمثل عُشر النفقات التي تدفعها الشركات الأمريكية لمنتج مشابه للصيني، وقيامه على فريق محدود من الشباب، 50% منهم تحت 30 عاما و75% منهم وُلدوا بعد عام 1990، أسهموا في ابتكار تكنولوجي شديد الذكاء، مخترقين كل القيود على تصدير الرقائق الأمريكية والغربية، وعملوا بشكل تعاوني مع شركات محلية، لإنتاجه بنحو 5.5 ملايين دولار فقط.
يدعم التطبيق المجاني “الاستثمار الكمي” بسوق الأسهم والسندات، بما يرفع كفاءة أسواق المال وإمكانية مضاعفة قيمتها السوقية كل 18 شهرا، فلديه نظام “روبوت” للدردشة قادر على توجيه النصائح والابتكار اللحظي وتطوير الصناعات المختلفة، بما سيمكّن الصين في نهاية المطاف من الوقوف على قدم المساواة مع اقتصاد الولايات المتحدة.
نهاية الأسطورة الأمريكية
غيَّر زخم الذكاء الاصطناعي الصيني صناعة التكنولوجيا الفائقة إلى الأبد، بما جعل الصينيين يحتفون عبر وسائل التواصل الاجتماعي بقدرتهم على “كسر أسطورة هيمنة التكنولوجيا الأمريكية”، لا سيما أنهم تفوقوا عليها في صناعات أخرى وينافسونها في الفضاء. رأى المحتفلون التطبيق هدية من الدولة، في بداية عام “الثعبان” الذي يرمز في أساطيرهم إلى قدرته على التجديد والتريث مع الذكاء، وسرعة الانقضاض على الخصم عندما يشعر بالخطر.
عزز الصعود المفاجئ للتطبيق طموحات الصين بأن تصبح رائدة في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، وتعميق برنامج “صُنع في الصين” الذي أطلقه الرئيس شي جين بينغ عام 2015، وتعهَّد بتنفيذه العام الجاري.
أكد رئيس فريق الإنترنت بقطاع آسيا بمؤسسة غولدن ساكس للأبحاث الاقتصادية أن الاختراق الصيني سيخفض تشغيل تطبيقات “روبوت الدردشة” بالذكاء الاصطناعي، وينشرها بشكل أوسع وأرخص من تطبيق “شات جي بي تي” وغيره من التطبيقات الأمريكية، بما يوفر التكنولوجيا الفائقة للمستهلكين بلا تمييز وفي جميع مجالات المعرفة البشرية.
أنهي التطبيق عصر”الاستعمار الرقمي” الذي تنتهجه واشنطن عبر شركاتها العملاقة، مثل غوغل وميتا ومايكروسوفت وأبل، التي توظفها في الهيمنة على المعرفة ووسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت، التي حرمت الدول غير الخاضعة لسياساتها الاستعمارية من الوصول إلى الإنترنت وتلك المنصات، وأسهمت في تعيمق الفجوة المعرفية بين الشعوب، و”إبقاء دول الجنوب في حالة من التبعية الرقمية الدائمة”.
جواسيس التكنولوجيا
في اعتراف للمنشق عن وكالة الأمن القومي الأمريكي إدوارد سنودن عام 2013، أكد قدرة وكالة الأمن القومي الأمريكي على الدخول المباشر إلى الخوادم الخاصة بشركات التكنولوجيا، عبر برنامج تجسس رقمي عُرف باسم “بريزم” PRISM، قادر على اختراق رسائل البريد الإلكتروني والاتصالات عبر الإنترنت، ونقل الملفات وتفاصيل شبكات التواصل الاجتماعي إلى أشخاص داخل الولايات المتحدة وخارجها.
الأمر الذي يهمنا أن المخابرات الأمريكية أصبحت أكبر شريك للموساد الإسرائيلي في تعميق صناعة تكنولوجيا التجسس على البشر، والصناعات العسكرية ذات التقنية العالية، لضمان التفوق في صناعات الصواريخ والفضاء وتوجيه السفن، مع توظيف تلك المهارات لخدمة الأنظمة السلطوية العربية والغربية والهيمنة الثقافية على الإنترنت ووسائل التواصل. تمارس واشنطن استعمارا ثقافيا ووضع منظومة أخلاقية وفقا لمعاييرها التي تماهت -خلال العدوان الإسرائيلي على غزة- مع التوجهات الصهيونية لنخبة المليارديرات المحيطين بالرئيس الأمريكي ترامب والداعمين لسياساته الطائشة.
وجَّه التطبيق ضربة موجعة لترامب ورجاله، بعد أن خسر 500 ملياردير منهم 108 مليارات دولار من ثرواتهم الشخصية، عقب احتفالهم مع الرئيس بإطلاق مشروع “ستار جيت” لتأسيس أكبر قاعدة صناعية للحرب التكنولوجية بقيمة 500 مليار دولار، بما يضمن تفرُّد أمريكا بقيادة العالم، دون أن يلتفت أي منهم إلى خطورة سياساتهم على القيم الديمقراطية، التي تقضي بحق الشعوب في الوصول إلى المعرفة بعدالة ودون تكلفة ثقيلة أو تعرُّض ثقافتهم وحياتهم الخاصة للخطر.
سياسات وقحة
رأى ترامب التطبيق الصيني خطرا على الأمن القومي والمواطنين الأمريكيين، ومنع استخدامه على هواتف وأجهزة العاملين في البحرية والمناطق الحساسة “خوفا من سرقة بيانات الأمريكيين”، بما دفع جهاته الأمنية إلى شن هجوم واسع على التطبيق، بهدف إغراق خوادمه ونطاقه الترددي، لإصابته بشلل، يضمن لأمريكا التفوق في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، وعدم وقوع الغرب رهينة للاقتصاد الصيني. لم نستطع الولوج إلى التطبيق لاعتذار الشركة عن تنزيله للجمهور، لحين تحصينه بقوة ضد العدوان الإلكتروني.
المدهش أن ترامب يتغافل عما ارتكبته الشركات الأمريكية مع تلاعب في بيانات عملائها تجاريا وتسهيلها لتعامل الأجهزة الأمنية عليها قسرا. سبق لـ”غوغل” و”ياهوو” و”أمازون” أن سمحت لسلطات بيجين بممارسة القهر الأمني والاستبداد مع المواطنين، بالحصول على بياناتهم مقابل بقائهم داخل الصين. حجبت “ميتا” وأخواتها المستخدمين العرب والداعمين للقضية الفلسطينية، ومنعت المعارضين للعدوان الإسرائيلي على غزة من فضح المجازر الصهيونية.
لم يعد الصراع بين المتنافسين على الأيديولوجية والقيم الديمقراطية، بل لإدارة “حرب بلا دخان” هدفها السيطرة على العقول والقلوب والمكاسب المالية.
لا يبدي ترامب بالا بمدى توفير الاختراع قدرا من المعرفة والمعلومات للجمهور عبر تكنولوجيا رخيصة، فما يهمه أن قادة وادي السيليكون سيفقدون قدرتهم على توليد المال من دخل 6.7 مليارات نسمة، يستخدمون شبكات الإنترنت في العالم يوميا، بما كسر غروره في أمر يدفعه إلى شن حرب تجارية وقحة، قد تجرّه إلى حرب عسكرية لتصدير المنتجات الأمريكية بالقوة.