السبب الرئيسي لرسوم ترامب وتهديداته الجمركية

العلم الأمريكي أعلى جرار زراعي في المركز الزراعي الدولي في تولاري، كاليفورنيا (الفرنسية)

قبل 25 عاما كنت ضيفا على الولايات المتحدة ضمن وفد عربي في إطار برنامج الزائر الدولي الأمريكي، واستمرت الزيارة ثلاثة أسابيع تضمنت التجوال بعدد من الولايات، وبإحدى المدن بولاية غير مشهورة كان المول التجاري متسعا بشكل لا يتسق مع عدد سكان المدينة، لتجد به كافة أنواع السلع حتى إنني أحصيت عدد أنواع الفول السوداني على الرفوف فوجدتها أكثر من عشرة أصناف، فما بالك بالسلع الأخرى ومدي التنوع في عرض السلع الأساسية.

وهكذا شهدنا متاجر ملابس ضخمة بولايات شهيرة تخصص قسما لكل نوع من أنواع ملابس الأطفال، بحيث يجد الزائر تنوعا بالموديلات والألوان بشكل يصعب تكراره، وهكذا فهمنا عمليا أهمية الاستهلاك بالمجتمع الأمريكي لاستمرار دوران العجلة الاقتصادية، ودور ارتفاع نصيب الفرد من الدخل القومي في ذلك، والذي بلغ بالعام الأسبق أكثر من 80 ألف دولار للفرد، الي جانب دور المؤسسات المالية لتسهيل الاقتراض لشراء كافة أنواع السلع والخدمات بداية من دفع المصروفات الجامعية الي عمليات جراحات التجميل.

وهكذا فإن هذا الاستهلاك الضخم لعدد السكان البالغ حاليا 347 مليون نسمه يتطلب مزيدا من الاستيراد، الأمر الذي أدي للتحول من حالة الفائض السلعي التي استمرت حتي عام 1970، إلى العجز التجاري منذ 1971 والذي تكرر بعدها بعامي 1972 و1974، ثم استمر منذ عام 1976 وحتي الآن أي حوالي نصف قرن بلا انقطاع، وواصل هذا العجز ارتفاع قيمته من 25.5 مليار دولار عام 1980، الي 111 مليار دولار عام 1990 ثم الي 447 مليارا عام 2000، والي 649 مليارا عام 2010 ثم 913 مليارا عام 2020 ليتجاوز التريليون دولار سنويا بالسنوات الأربع الماضية.

وهذا العجز التجاري المزمن هو السبب الرئيسي لإجراءات ترامب بفرض رسوم جمركية على سلع صينية، وعزمه فرض رسوم جمركية على سلع كل من كندا والمكسيك مع بداية الشهر المقبل، وتهديده الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية على السلع التي يصدرها للولايات المتحدة، نظرا لأن الولايات المتحددة تحقق عجزا تجاريا مع كل من الصين وكندا بشكل مستمر منذ عام 1985 أي طوال أربعين عاما – حسب البيانات المتاحة –، كما حققت مع المكسيك عجزا خلال 36 عاما من تلك السنوات الأربعين، وحققت مع الإتحاد الأوروبي عجزا مستمرا منذ عام 1997.

  تدني تغطية الصادرات للواردات

وهكذا يسعي ترامب بفرض رسوم جمركية على سلع تلك الدول، لزيادة قيمتها داخل السوق الأمريكية مما يقلل تنافسيتها بها، ويدفع الشركات في أنحاء العالم للقيام بالاستثمار والإنتاج من داخل الولايات المتحدة لتفادي تلك الرسوم الجمركية.

وتزداد صعوبة مهمة ترامب أن هناك صعوبة في التغلب على هذا العجز نظرا لكبر قيمته، وتدني نسبة تغطية الصادرات الأمريكية لتلك الدول الي وارداتها منها، حيث تدور نسبة تغطية الصادرات الأمريكية للصين للواردات منها حول نسبة الثلث، حيث كانت أدني نسبة لها 16 % وأعلى نسبة 35 % بالسنوات الأربعين، وبالعام الماضي كانت نسبة تغطية الصادرات الأمريكية للاتحاد الأوروبي للواردات منه 61 %، الي جانب إمكانية قيام تلك الدول بفرض رسوم جمركية على الصادرات الأمريكية إليها، مما يحول الأمر الي حرب تجارية.

صحيح أن الولايات المتحدة تحقق فائضا مستمرا بتجارتها الدولية الخدمية منذ عام 1971، لكن هذا الفائض الخدمي عادة ما يكون أقل بكثير من العجز التجاري السلعي، ففي العام الماضي بلغت قيمة فائض التجارة الخدمية 293 مليار دولار، بينما بلغت قيمة العجز بالتجارة السلعية حسب مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي تريليونا و212 مليار دولار، أي أن الفائض الخدمي شكل نسبة 24 % من العجز السلعي.

وبالعام الماضي تعاملت الولايات المتحدة تجاريا مع 233 دولة ومقاطعة وجزيرة بأنحاء العالم، حققت خلالها عجزا تجاريا مع 101 بلدا وتوازنا تجاريا مع دولتين، وفائضا تجاريا مع 130 دولة ومنطقة، وهنا قد يري البعض أن عدد بلدان الفائض التجاري أعلى من عدد بلدان العجز التجاري، لكن الصورة التفصيلية ليست كذلك.

ففي قائمة العشر الشركاء الأوائل تجارتها مع العالم، حققت الولايات المتحدة عجزا تجاريا مع تسع منها، مقابل فائض مع دولة واحدة وهي انجلترا والتي جاءت بالمركز التاسع بشركاء التجارة، مع الأخذ بالاعتبار أن هؤلاء العشر الأوائل بالتجارة قد استحوذوا على نسبة 64 % من مجمل تجارتها مع العالم.

الرسوم لن تحل المشكلة

وحتى بالعشر الثانية لشركاء التجارة فقد حققت عجزا مع ست دول منها مقابل تحقيق فائض مع أربع، وهكذا تفوقت كفة دول العجز من حيث وزنها النسبي بالتجارة، حيث استحوذت الدول العشرون الأوائل على نسبة 82 % من مجمل التجارة، والأهم من ذلك هو القيمة الضخمة للعجز مع تلك الدول، حيث بلغت قيمة العجز التجاري مع الصين وحدها 295 مليار دولار، ومع المكسيك 172 مليار دولار ومع فيتنام 123.5 مليارا، ومع أيرلندا 87 مليار دولار ومع ألمانيا 85 مليار دولار.

فإذا أضيفت لها الدول الخمس التالية من حيث قيمة العجز التجاري وهي: تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وكندا والهند، يصل مجموع العجز التجاري مع الدول العشر تريليون و80 مليار دولار.

مع الأخذ بالاعتبار أن البيانات الًصينية لتجارتها الخارجية مع الولايات المتحدة تزيد عادة عن البيانات الأمريكية لتلك التجارة، ففي العام 2023 ذكرت بيانات الصين أنها حققت فائضا تجاريا بتجارتها مع الولايات المتحدة بقيمة 336.5 مليار دولار، بينما ذكرت البيانات الأمريكية أن قيمة عجزها التجاري مع الصين بنفس العام بلغت 279 مليار دولار، أي أن بيانات الصين تزيد بنحو 57 مليار دولار عما أعلنته أمريكا من قيمة لعجزها مع الصين، وتكرر هذا الفائض بنفس الاتجاه بالسنوات الثلاث من 2020 الي 2022.

وبهذا يتضح أن حصة دول الفائض التجاري الأمريكي من مجمل التجارة الأمريكية منخفضة، وبالتالي فإن أرقام الفائض التجاري التي تتحقق معها لم تفلح في سد العجز التجاري الضخم، وبقي منه بعد استبعاد الفوائض 1.2 تريليون دولار، حيث تغلب على الدول التي تحقق معها الولايات المتحدة فائضا تجاريا كونها بلدان متوسطة أو صغيرة القيمة بالتجارة الدولية.

وهكذا يتضح من الصورة المرعبة لحجم وتاريخ العجز التجاري الممتد، لعقود أن الرسوم الجمركية لن تحل المشكلة، حيث تحقق الولايات المتحدة عجزا تجاريا متواصلا خلال الأربعين عاما الماضية مع كل من ألمانيا وتايوان والهند وتايلاند وايطاليا وغيرها مثل أندونسيا وماليزيا، وبالأربعين عاما الأخيرة حققت عجزا مع فرنسا عدا عامين فقط، كما تحقق عجزا مستمرا مع أيرلندا وفيتنام منذ ،1996 ومنذ 1998 مع كوريا الجنوبية ومع سويسرا منذ 2013.

وهكذا يحتاج الأمر الي إجراءات أخري متعددة منها ترشيد السلوك الاستهلاكي الداخلي، وزيادة الإنتاج المحلي والتصديري لمواجهة الطلب المتزايد على السلع والخدمات، مع الأخذ بالاعتبار أن فرض رسوم جمركية على منتجات دول أخري يزيد من تكلفة تلك السلع على المستهلكين والمنتجين والتجار بالداخل الأمريكي، مما يمكن أن يزيد من معدلات التضخم التي عادت الي الارتفاع بالشهر الأخير.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان