حرب أوكرانيا وغزة تعيد تشكيل التحالفات العالمية

الرئيس الأوكراني (الفرنسية)

(1) انشقاق في المعسكر الغربي

كان لاجتماع الرياض بين الوفدين الدبلوماسيين الأمريكي والروسي، للتباحث حول تحسين العلاقات بين البلدين تمهيدا للقاء الزعيمين ترامب وبوتين، تأثير كبير في أوروبا.

الحرب الأوكرانية التي دفع الغرب فيها مليارات الدولارات لأوكرانيا لتستمر خوفا من انتصار روسي قد يدفع موسكو إلى غزو بلدان أوروبية أخرى تنتمي إلى حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، على وشك أن تتوقف بأوامر أمريكية منفردة وطبقا لشروط بوتين.

لم تتم دعوة أي طرف أوروبي إلى اجتماع الرياض التمهيدي، ومن المتوقع أن يحدث نفس الشيء في الاجتماع القادم بين الرئيسين الأمريكي والروسي في الرياض أيضا، أوروبا تستشعر أنها أصبحت طرفا غير مرغوب فيه لدى الإدارة الأمريكية الجديدة عكس ما كان عليه الحال في ظل إدارة الرئيس السابق جو بايدن الذي كان المحفز الأول للعقوبات الأوروبية المتشددة على روسيا والدافع إلى دعم أوروبا غير المحدود لأوكرانيا بالسلاح والعتاد العسكري وكذلك المساعدات المالية الضخمة، وفتح دول الاتحاد الأوروبي أبوابها المغلقة أمام الأوكرانيين حيث قدمت لهم المأوى والمساعدات وبطاقات الإقامة الشرعية، وكان لكل ذلك تأثير سلبي على اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي وأدى إلى التضخم وغلاء المعيشة وتذمر شعوب هذه الدول.

ترامب وإداراته التي شكلها من أشخاص ينتمون إلى نفس مدرسته الفكرية اليمينية الشعبوية، يعتقدون أن مسؤولية أمريكا عن أمن أوروبا تكلف الولايات المتحدة الكثير من المال، ولا تضيف لها شيئا، وخاصة بعد تصريح جيه دي فانس نائب الرئيس الأمريكي في مؤتمر ميونخ عن الاختلافات بين أمريكا وأوروبا، حيث لا تحترم الأخيرة حرية التعبير وتعرقل الأحزاب اليمينية عن الوصول إلى الحكم ملتفة بذلك على رغبة الناخبين.

أوروبا أصبحت بالنسبة لترامب حملا ثقيلا وحجر عثرة أمام تحقيق شعاره “أمريكا عظيمة مجددا”، وهو يتصور أن أمريكا لا تحتاج إلى القارة العجوز للوصول إلى هذه العظمة، كما يتصور هذا بالنسبة لباقي دول العالم، فهو يعتقد أن أمريكا وحدها كافية لتحقيق عظمتها المطلقة بالقوة العسكرية والاقتصادية، ولذا فهو يكرر ما سبق أن صرح به في ولايته الأولى من أن على الأوروبيين الإنفاق أكثر على الدفاع العسكري ليحموا أنفسهم بأنفسهم، وفي حال انتهاء الحرب الأوكرانية أن يتكفلوا بحفظ السلام في أوكرانيا بقوات أوروبية وليس أمريكية.

لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية يتغير المفهوم المستقر حول مسمى “الغرب” الذي كان مقصودا به أوروبا وأمريكا الشمالية. ترامب نجح في غرس الشك وعدم اليقين والخوف في قلوب وعقول حلفائه الأقربين، وعليهم الآن أن يضعوا خططا دفاعية جديدة ليس فيها مكان لأمريكا، وهو الأمر الذي يضرب الأساس الذي قام عليه حلف الناتو.

أمريكا التي كانت الحصان الأسود في الحرب العالمية الثانية، تريد أن تخرج من المضمار. أمريكا الترامبية أمامها معارك أهم من مشاكل القارة الأوروبية وهي لا تريد أن تستنزف طاقاتها فيما لا يعود عليها بالنفع الفوري والسريع.

هذا الموقف سيجعل أوروبا تعيد حساباتها وخاصة مع الصين، فتقاربها مع أمريكا ومراعاة خاطرها والتبعية لها كان يمنعها من الانفتاح والتقارب مع الصين، وربما تغير أوروبا موقفها من مشروع الحزام والطريق لتصبح عما قريب شريكا للصين ضاربة بالمصالح الأمريكية عرض الحائط.

إيران هي أيضا، تتابع عن كثب التقارب الأمريكي الروسي، وهناك سؤال مطروح حول اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين التي وقعها الرئيسان الروسي والإيراني في 18 يناير/كانون الثاني الماضي في موسكو، قبل 48 ساعة فقط من تنصيب ترامب، وسؤال حول مدى التزام روسيا بالجانب الذي جاء فيها الخاص بالدفاع المشترك، وهل ستتخلى روسيا عن طهران مقابل صفقة مع ترامب؟

موسكو سارعت بالإجابة عن هذه المخاوف الإيرانية وأكدت استمرار العلاقة القوية والاستراتيجية مع إيران، لكن التغيرات المتسارعة منذ مجيء ترامب قد تقلب الأوضاع رأسا على عقب، وعلينا الانتظار.

(2) العرب واختيار المستقبل

طوفان الأقصى كان له تداعيات كثيرة عربيا وإقليميا ودوليا، فلقد أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة وأصبح هناك التزام عربي أكبر بضرورة إيجاد حل دائم وعادل للقضية أكثر من أي وقت مضى لتحقيق الاستقرار في المنطقة ومنع العنف والفوضى والإرهاب من العودة من جديد، وأصبح ذلك مقدما على التفكير في إبرام معاهدات سلام وتطبيع مع إسرائيل، وهل يمكن للسعودية أن تقوم بالتطبيع مع إسرائيل في ظل هذه الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة؟ حتى معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل أصبحت محل شك بعد احتلال إسرائيل ممر فيلادلفيا وتعريض الأمن القومي المصري للخطر دون مراعاة لبنود المعاهدة.

على الساحة الإقليمية، تراجع النفود الإيراني نتيجة الضربات التي تعرض لها حزب الله وقادته في لبنان وكذلك كتائب القسام في غزة والحوثيون في اليمن وسقوط نظام الأسد في سوريا. إيران تقف الآن أمام إسرائيل وأمريكا دون ساتر وهو ما سيدفعها إلى تغيير استراتيجيتها الدفاعية ومحاولة التقارب أكثر مع جيرانها العرب في الخليج وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، وكذلك تقوية التحالف مع روسيا وهو ما حدث بالفعل، والاستمرار في تعاونها وتحالفها مع الصين.

دوليًّا، أبرزت حرب غزة الاختلافات في المعسكر الغربي، كان هناك تباين واضح بين موقف عدد من الدول الأوروبية وبين أمريكا، وظهرت الأخيرة بمظهر الدولة المارقة على الشرعية الدولية، وهذه الاختلافات ستتعمق بشكل أكبر بسبب موقف ترامب من الحرب الأوكرانية.

العالم ينتظر نتائج الاجتماع التمهيدي للقادة العرب في الرياض وما ستسفر عنه القمة العربية الطارئة في القاهرة، لأن مخرجات الاجتماع والقمة سيحددان البوصلة العربية في المرحلة القادمة، وهل سيكون هناك موقف عربي موحد ورؤية عربية مشتركة لما يجب أن يكون عليه الأمر في الشرق الأوسط الجديد؟ أم أننا لن نبرح مكاننا المفروض علينا.

العرب عليهم أن يحجزوا المكان والمكانة التي تليق بهم في المستقبل، ولا يقبلوا أن يكونوا جزءا من مشروع ليس لهم فيه مصالح ولا يليق بدولهم ولا ينفع شعوبهم.

الرد العربي على تصريحات ترامب الخاصة بتهجير أهل غزة قسرا إلى مصر والأردن لا بد أن يكون معبرا عن آمال الشعب الفلسطيني في وطن حر ومستقل يعيش فيه بكرامة ومساواة، وأن يكون منسجما مع مواقف الشعوب العربية المناصرة لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة بكل الوسائل في حال لم يتحقق له سلام حقيقي وعادل ودائم.

علي القادة العرب عدم الخوف من خسارة التحالف الاستراتيجي مع أمريكا، فهي تحتاج إلى هذا التحالف بنفس القدر الذي يحتاج إليه العرب بل وأكثر.

العالم أكبر من أمريكا ونحن نعيش مخاض نظام عالمي جديد متعدد الأطراف، مهما امتلكت فيه أمريكا من قوة فلن تستطيع أن تجهضه بل ما يفعله ترامب يعجل به، وهذه فرصة القادة العرب في اختيار التحالفات التي تحقق لهم مصالحهم دون منّ أو أذى.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان