أزمة تحرير الأفكار وصناعة أقلام جادة

ثروت أباظة (منصات التواصل)

 

عندما يدور الحديث عن أزمة الكتابة في بلادنا، يكون من الإجحاف أن نتحدث فقط عن أزمة عند الكتاب، مهملين جوانب أخرى، تكمل الرؤية، فإن الكاتب لا يبدأ كاتبا كبيرا، بل يبدأ بالكتابة بين كتّاب كبار، دون تأفف، كنا نرى في المجلات القديمة أعمدة مقالات للكبار، وبجانبها كتّاب ليسوا مشهورين، لكن ملامح النبوغ تلوح من مقالاتهم، وكان السبب في وجود أجيال تتبعها أجيال، هو روح الأبوة والأخوة التي كانت عند المجلات وأهل الفكر والثقافة، فالكبير يأخذ بيد الصغير، ورؤساء تحرير المجلات لم يكن يعنيهم شهرة الكاتب، بقدر ما يعنيهم جدية ما يكتب.

كانت المجلات الراسخة ثقافيا في مصر، لها أصول وتقاليد قوية جدا في شروط النشر، فهناك تدقيق في لغة المقال، وتدقيق في فكرته، وفي فقراته، فقد وجد في هذه المؤسسات ما يعرف في مهنة الصحافة حاليا: بمحرر المحتوى، دون نص على الوظيفة، فقد كان يقوم بذلك رئيس التحرير، أو سكرتارية التحرير، فلم يكن دورهم مجرد تسلم المقال، ونظر في الأخطاء الإملائية، والشكليات، وفقط، بل كانت المسألة تصل لعمق ما يكتب، ومناقشة ما يكتب، والاقتراح بالحذف أو التعديل، بشكل يخرج المنتج في أفضل صوره، دون ضيق أو تبرم من الكاتب صغيرا كان أو كبيرا.

أحمد أمين نموذج يحتذى:

لو وقفنا أمام شخصية من الشخصيات الفكرية الكبيرة في مصر، التي أسست مجلة كانت لها مكانتها الكبرى في عالم الثقافة، وهي مجلة (الثقافة) للأستاذ أحمد أمين، الذي كان عميدا لكلية الآداب، وقت أن كانت عمادة كلية آنذاك قيمة كبرى، وليست منّة من ضابط أمن يتم تعيين العميد بناء على تقرير أمني منه، ومع ذلك كان يدقق أحمد أمين فيما يكتبه الكتّاب، ليس من باب التسلط، بل من باب خدمة الفكرة، وخدمة الثقافة، يذكر اثنان من أهل الأدب العربي في مصر، موقفين مهمين لأحمد أمين، يدلل كيف كانت خدمة المقال، والكتابة، مسألة ذات قيمة وأهمية، وكانت مسؤولية، على الكاتب أولًا، ثم على الناشر، فهو شريك في الفكرة.

كتب عزيز باشا أباظة رواية بعنوان: (العباسة)، وقد كتب الأديب الكبير يحيى حقي مقالا نقديا لها، وكان حادا في مقاله، ونشر المقال في مجلة الثقافة، فكتب الأديب الكبير ثروت أباظة، مقالا دفاعا عن عمه عزيز باشا وروايته، وكان مقاله قاسيا وشديدا أيضا، فوجئ ثروت أباظة وكان طالبا وقتها في الكلية، باتصال من أحمد أمين، يخبره بأن مقاله الآن في المطبعة، ولو شاء لنشر المقال كما هو، لكنه يرجوه أن يكتب مقالا آخر أخف حدة، وأن يراعي حال يحيى حقي، فقد توفيت زوجته منذ فترة قصيرة، وهذا ترك أثرا في نفسية الرجل، وأنا أكلمك بصفتي أحمد أمين الوالد، لا أحمد أمين رئيس تحرير الثقافة، وبالفعل كتب ثروت مقالا جديدا، وذهب يسلّمه للمطبعة، بغير رجوع لأحمد أمين فوجد مقاله بالفعل في المطبعة، فاستبدل هذا بذاك.

مؤرخ كبير يناقش مقال طالب قبل النشر:

ويحكي الدكتور محمد رجب البيومي وقد كان طالبا في كلية اللغة العربية بالأزهر، وقد كتب مقالا، ولكنه ظل شهرين لم ينشره أحمد أمين، حتى لقيه، فقال له: يا رجب، إن مقالك أرجأت نشره، لأني عهدت به إلى الدكتور عبد الحميد العبادي، وهو من أشهر مؤرخي مصر آنذاك، ليراجع المقال، وهو قادم غدا لمكتبي، فتعال ليناقشك، تعجب البيومي كيف يجلب أحمد أمين عالما كبيرا في هذا السن والمقام لطالب كتب مقالا.

فلقيه بالفعل في الموعد المحدد، وقال العبادي لبيومي: إن مقالك عن مقارنة بين كتاب جورجي زيدان عن التمدن الإسلامي، وكتاب الشيخ محمد الخضري عن تاريخ الدولة الأموية والعباسية، وقد انتهيت في رأيك إلى أن كتاب جورجي أقوى، لأنه تحدث عن المدنية الإسلامية بكل ما هو منشود، بينما لم يفعل ذلك الخضري، وأنا أود منك يا بني أن تكتب سطرا فقط، فلست معترضا على مقالك، فقال له: يا أستاذنا يشرفني أن تضيف هذا السطر دون الرجوع إلي، فقال له: لا، بل تكتبه أنت، فاكتب: (وقد كتب زيدان كتابه، لأنه كان يكتب للجماهير، ويكتب دون تقيد، ولم يكتب الخضري ذلك عن عجز منه، بل لأنه كان مقيدا في الكتابة بمنهج دراسي مطلوب منه، وله محاور محددة من الجهة التي كلفته بالكتابة، ولو أطلق له عنان الكتابة لفعل مثلما فعل زيدان).

تحرير المقالات والكتب:

مثل هذه الجهات التحريرية، لم تعد موجودة بهذه الدقة حاليا إلا نادرا، ولو فعلها مسؤول نشر مقالات في موقع، أو مجلة، فهي في الغالب ليست من مهامه الوظيفية المكلف بها، ولكن يفعلها -في الغالب- إذا كان من أبناء المهنة الذين تدرجوا بها، وهو ما يصدق عليه قول المثل المصري: (من لم يكن صبيا في صنعته، لن يكن معلما فيها)، فظن البعض أن هذا الدور لا يتعدى شكليات الكتابة، لا الغوص في المضمون، والعون على إخراج أبرز ما لدى الكتاب، إن كان من يكتب لديه ما يخرجه، ولا ينقصه سوى تحسين ما لديه.

بل وصل الحد بهذه الجهات التحريرية إلى ابتكار وسائل تتخطى به موانع النشر الصارمة لدى السلطة، فإذا كتب كاتب مقالا جادا ومهما، ويضيق الرقيب به، ويرفض نشره، أو يطلب حذفه، فكانوا مع حذف المقال يعمدون لحيلة ذكية تؤدي الغرض من نشر المقال دون نشره، فقد كانوا يخرجون العامود الصحفي أبيض فارغا، ولا يكتبون فيه سوى عنوان المقال المحذوف فقط، وبذلك يتجنب المساءلة الأمنية، ويتجنب المساءلة الأخلاقية لمنعه مقالا لكاتب، ومن يرجع لمجلة الرسالة مثلا، سيجد مقالات من هذا النوع، منها مقال لأحمد حسن الزيات، فوجئت بعنوانه، وبالمساحة الخالية، كان عنوان المقال: لا تخافوا الإخوان، ثم بعد مدة من الزمن سمح بنشره، فنشره، وسألت أهل هذه الفترة من أهل العلم، فأخبروني عن هذا السلوك المتبع للتهرب من سيف الرقيب.

هذا ركن ركين من عملية الكتابة في بلادنا، وقد كان لفترة قريبة مرعيا بشكل كبير، ولم يعد حاليا مرعيا إلا في إطار محدود، في بعض المؤسسات والمواقع، هذا بالنسبة للمقالات والبحوث، أما بالنسبة للكتب فليس موجودا إلا نادرا في بلادنا، وهو ما يسمى في الغرب: مخرج الكتاب، فهو يتسلم الكتاب فصولا، وكتابات متفرقة مثلا، ولكنه يجمع شتاته، ويؤلف بين عناصره، وينظم أفكار المؤلف، ويشار إلى من قاموا بهذا العمل في المقدمة، أو في الخاتمة، وهو بذلك يخفف عبئا كبيرا عن المؤلفين، بدل أن يقوموا بكل الجهد من ألفه ليائه، ولذا يكثر عطاء الكتاب والمؤلفين في هذه البلدان، أو الجامعات الغربية.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان