حين يصبح الظلم مبنيا على قواعد!

ما أقبح الظلم، وما أشد قبح مقترفيه حين جعلوه مبنيا على قواعد، وتقف وراءه مؤسسات وهيئات ومنظمات تقنن ظلم الأقوياء في هذا العالم وتتستر على اغتيال العدالة، فبات الظلم أصل البلايا ومرجع ما أصاب العالم من مشكلات.

وإن الظلم بمعناه الأوسع والشامل ماديا ومعنويا مرجع حتى للشرك برب الكون الواحد الأحد، فقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

ذم الظلم وتحريمه

لقد أراد الله إرساء قواعد العدل في النفس البشرية، وتحريم الظلم بين العباد، فجاء في الحديث القدسي فيما رواه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رب العزة: “يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالموا”.

ولقد ذم الله الظلم ورتب عليه عواقب وخيمة، وجعله سببا من أسباب هلاك الأمم والشعوب، فقال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}.

وقال جل في علاه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.

في عالم اليوم تنوع الظلم واستشرى حتى أصبح مألوفا مبررا بين الأفراد والجماعات، وفي العلاقات بين الدول والأمم والشعوب.

وقد استُحدثت مسمياتٌ تخفف من قبح الظلم ووطأته على النفوس، تتوارى خلفها أشكال متعددة للظلم استغفالا للعقول، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}.

ازدواجية المعايير مصطلح منمق للكيل بمكيالين، الذي يمثل أبشع أنواع الظلم بحق الآخر، والحياد عبارة مطاطة لوجه صارخ من وجوه الظلم، يحتمي وراءه الراضون بالظلم، ليفسحوا المجال للظالم يمارس ظلمه في هدوء، وليتركوا القوي يفتك بالضعيف ظلما وعدوانا.

ظلم صريح ومستتر

وتحت دعاوى عديدة يُمارس الظلمُ بين الأفراد والجماعات، ومحليا وإقليميا ودوليا، فبدعوى المصالح العليا والأمن القومي، والأمن الإقليمي والأمن الدولي، وغير ذلك من الدعاوى، دون معايير ضابطة، يُمارس الظلم صريحا ومستترا في هذا العالم.

في عصر الحداثة والتكنولوجيا بات الظلم واقعا مشهودا، قائما على قواعد أسستها منظومة دولية شيدت للظلم أركانا وأقامت له بنيانا، حتى أصبح متلازمة لهذا العصر الذي سمي بعصر الحداثة، وهو في حقيقته عصر الارتداد إلى الجاهلية.

في عالم اليوم الذي أصبح بمثابة قرية كونية صغيرة، يمارس الظلم بلا هوادة على مرأى من الدنيا كلها، بدعاوى عقدية فاسدة ونبوءات وترهات غيبية منزوعة الدين والعقيدة، فيباد شعب ويهجر من أرضه ظلما وعدوانا، ويفرض عليه الحصار والجوع، والعالم أغلبه يشارك في هذا الظلم إما بفعل أو قول، وإما بغض طرف أو سكوت، وما يحدث في غزة وفلسطين مثال صارخ لظلم بُني على قواعد نظام دولي معتل منذ نشأته.

ظلم الهيمنة والتبعية

لم يتعلم إنسان هذا العصر من أخطائه، فبدلا من أن يسود العدل بعد حربين عالميتين ذاق العالم فيهما الويلات، دشن المنتصرون في الحرب العالمية الثانية نظاما دوليا عانى المجتمع الدولي من تكريسه للظلم بوجوه متعددة، حيث سطا الأقوياء على مقادير العالم، ليبدأ عصر جديد من المظلومية الاستعمارية والهيمنة والتبعية.

في ظل منظومة دولية عمادها الهيمنة والتبعية، بات العالم يعيش ظلما أفرزته علاقات الهيمنة بين دول صناعية قوية، وأخرى ضعيفة نامية، وباتت علاقات الهيمنة والخضوع لا تعبر عن الظلم فحسب، ولكنها مولدة للظلم بكل أشكاله، وأصبح الظلم مشكلة تتجاوز حدود المحلية والإقليمية، ليصبح مشكلة عالمية، هكذا قادت علاقات التبعية والهيمنة وأدواتهما إلى عولمة الظلم في هذا العصر، لتصبح علاقات العالم علاقات تبعية وهيمنة ظاهرها المصالح والمنافع وباطنها الاستبداد والظلم، وهو ما يعكس صورة علاقة الأقوياء بالضعفاء والسادة بالتابعين، و”الظلوم “و”الجهول”، وصدق الله العظيم إذ يقول: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.

مظلوم لا يُنصر وظالم لا ينتصر!

في عالم اليوم الذي تقوده دول المركز التي تسود، وتهيمن على العالم اقتصاديا وتكنولوجيا، أدى الظلم الذي تمارسه هذه الدول إلى تفاقم الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في دول الهامش التي أغلبها من الدول النامية.

لقد أدى استشراء الظلم إلى جاهلية عصرية، يصدق فيها قول زهير بن أبي سُلمي في الجاهلية الأولى: “وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِـه … يُهَـدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَـمِ”.

ففي ظل جاهلية هذا العصر نشأت مجتمعات ظالمة، يظلم فيها الناس بعضهم بعضها، وتظلم الدول القوية الدول الضعيفة، والأعلى يظلم من أسفل منه، والأدنى يظلم الأدنى منه، فبات العالم يعيش ازدواجية في الدور كما عبر البعض، وأصبح الفرد يمارس دورا مزدوجا، فهو ظالم تارة ومظلوم تارة أخرى، ليصبح حال الناس “بين مظلوم لا يُنصر وظالم لا ينتصر”، كما قال أحدهم.

السكوت عن الظلم والركون إلى الظلمة

إن الظلم لا يحقق للدول ولا للعالم استقرارا، ومحال أن يتحقق نماء وازدهار وعمران إذا عم الظلم وساد المفسدون.

إن الظلم سرطان يستشري في جسد الدول والأمم والشعوب، وهو مهلكة للعالم، يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، وقال: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}.

ولقد نهى الإسلام عن الركون إلى الظالمين، وحذر تحذيرا شديدا من الاعتماد عليهم لأجل عرض دنيوي ومكاسب فانية، وتوعد الله بالعقاب من داهنهم ورضي عن ظلمهم وزينه لهم، فقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: “مَن أعانَ علَى خصومةٍ بظُلمٍ، أو يعينُ علَى ظُلمٍ، لم يزَلْ في سخطِ اللَّهِ حتَّى ينزعَ”.

وحذر الله من الركون إلى الظالمين فقال: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}، فما بال هؤلاء الذين ينتسبون إلى المسلمين ويعينون غير المسلمين على ظلم إخوة لهم في الدين.

خاتمة

إن الإسلام جاء ليجفف منابع الظلم في هذا الكون، ويقيم العدل بين الناس، لا فرق فيه بين مسلم وكافر، ولا عربي ولا أعجمي.

ولقد تكفلت العناية الربانية بالقضاء على آفة الظلم واجتثاثها من جذورها، وجاء القرآن الكريم، ليبين أن المسلمين بمقتضى إيمانهم بالله مطالبون بألا يكونوا في موقع الساكتين عن الظلم أيا كان نوعه، وألا يركنوا إلى الظالمين في هذا العالم فلا حجة لأمة الإسلام أن تستسلم لظلم عالمي بني على قواعد وضعتها قوى كبرى في هذا العالم، لتضفي مشروعية على ظلمها للآخرين.

لقد أولى الله سبحانه وتعالى عنايته بعلاج مشكلة الظلم من جذورها، فتناول القرآن الكريم كلمة الظلم وما يتعلق بها في أكثر من 500 آية، وبيّن للعالم طريق الخلاص من الظلم عبر تحقيق العدل وإحقاق الحق والقسط بين الناس.

إن الظلم آفة ومرض خطر يهدد الحضارة البشرية وينذر بهلاكها، وإن تغاضى المجتمع الدولي عن ردع الظالمين ولم يمنعهم من ظلمهم، ولم يهدم قواعد الظلم التي أسس عليها ويزيل بنيانه، فإن الله يوشك أن يعم الناس بعقاب من عنده.

حين يصبح الظلم مبنيا على قواعد ويرتضيه الناس ويسكتوا عنه، فإن ذلك مدعاة لغضب الله وسخطه وعقابه.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان