هل كانت الثورة الفرنسية ثورة جياع؟!

أثّر الانبهار بالثورة الفرنسية في المثقفين العرب منذ القرن التاسع عشر، وفي نظرتهم للتاريخ الاسلامي، فاتجه بعضهم إلى التهوين من أهمية الانجازات الحضارية للأمة الإسلامية، والدعوة لتقليد الغرب الذي بدأت نهضته بشعارات الثورة الفرنسية.

ويجب أن نعترف بأن تلك الثورة كانت بداية انطلاق الموجة الاستعمارية الحديثة، التي تحولت فيها فرنسا إلى إمبراطورية سيطرت على الكثير من الدول الإسلامية والإفريقية، وتمكنت من نهب ثروات الشعوب، فأعادت بناء باريس التي صورتها بأنها عاصمة الفن والأدب والثقافة والعلوم والحضارة والذوق والجمال والموضة والأناقة.. مما أدى إلى قبول الكثير من الدول الإفريقية للاستعمار الفرنسي، والشعور بالعجز أمام قوة فرنسا، حتى تمكن شعب الجزائر من القيام بثورته العظيمة ضد الاستعمار الفرنسي، والبرهنة على أن الشعوب تستطيع أن تنتزع حريتها، وتسترد هويتها وشخصيتها الحضارية، وأن الشعوب يمكن أن تبني قوتها وتحقق استقلالها.

قراءة جديدة للأدب الفرنسي

لكي نتمكن من تحرير شعوبنا من الاستعمار الثقافي، ومن حالة الانبهار المرضي بالثورة الفرنسية، يجب أن نعيد قراءة الأدب الفرنسي برؤية جديدة، فهذه القراءة يمكن أن تكشف لنا الكثير من الحقائق التي تسهم في زيادة وعي شعوبنا، ورفض الاستكبار والغرور الغربي، وتحدي السردية الغربية التي تقوم على العنصرية، ونسبة الذكاء والتفوق والحضارة للجنس الأبيض.

ومن أهم الانتاج الأدبي الفرنسي الذي يجب أن نعيد قراءته القصص التي أنتجها ألكسندر دوماس الكبير، فهو بحق أهم أدباء فرنسا في القرن التاسع عشر، وأديب الثورة الفرنسية.

الفقر يرتبط بالجهل!

من أهم الحقائق التي يكشفها دوماس في قصته سقوط الباستيل، أو الثورة الحمراء أن شعب فرنسا كان يعيش في حالة فقر مدقع، ويعاني من ويلات الظلم الذي استسلم له نتيجة الجهل.

إن أقصى ما كان يتمناه الإنسان الفرنسي قبل الثورة هو الحصول على قطعة خبز كل يوم تسد جوعه، فبيتو وهو أحد أبطال الرواية الذي شارك في قيادة الثورة كان يعاني من الذل لكي يقبل القسيس ترشيحه لمنحة في الدير ليصبح قسيسا، لكنه لم يكن يستطيع أن يتعلم اللغة اللاتينية، وهي شرط أساس للحصول على هذه المنحة، التي تضمن له الحصول على الخبز، وتضمن لخالته العجوز أن تقضي بقية حياتها مشرفة على بيت القسيس، فتحصل على الخبز.

لذلك شكل طرده من الكنيسة مأساة له، وانهيارا كاملا لآماله، فطردته خالته، ومضي يبحث عن عمل ليصطاد الأرانب في الغابات، لكن الفلاح بيو التقطه لينقذه من مأساته.

لقد ضاع الخبز!

كانت حياة الفلاحين قاسية، فالسلطة ترهقهم بالضرائب التي تستنزف كل أرباحهم، فلا يتبقى لهم من إنتاج أرضهم سوى ما يكفي ليقيهم شر الجوع، ولذلك شعر بيتو بالحسرة، عندما هرب من رجال الشرطة التي اعتقلته بتهمة قراءة كتاب، فكيف يمكن أن يحصل على قطعة الخبز التي كانت تعطيها له زوجة الفلاح بيو.

الحقيقة التي يكشفها دوماس أن من كانوا يحصلون على الخبز هم الجنود والقساوسة، أما بقية الشعب فإن الجوع يسحقهم، وهم يعيشون بلا أمل حياة بائسة شقية.

هل تصدق أنها ثورة جياع؟!

رفع الثوار في البداية شعارات الحرية والعدل والمساواة، وقدموا الكثير من التضحيات لتحطيم سجن الباستيل وتحرير السجناء منه، لكن الثورة خمدت بعد أن أعلن الملك تسليمه الحكم للوزارة وللجمعية الوطنية، وقبوله مبدأ الملكية الدستورية.

لكن الملكة التي تحتقر الشعب، وتريد المحافظة على تقاليد الملكية واستخدام القوة لقمع الشعب قامت بجمع الجنود في قصر فرساي، ووفرت لهم كل ما يتمنونه من أسباب الترف، حيث يهدرون الكثير من الطعام والفاكهة، ويشهرون أسلحتهم للدفاع عن القصر.

أما الناس فقد أصبحوا -كما يصف دوماس- فوجدوا شبح المجاعة يدق أبواب باريس، ثم يدخلها ويطوق أحياءها، ملقيا جذوات النار في كل بطن يمر بها من بطون الكبار والصغار، و”إن شبح المجاعة كالح السحنة لا ينام إلا بعد مشقة؛ ولكن ما أيسر أن يصحو عند أقل دعوة وأهون إثارة، فإذا صحا لم يغمض له جفن، ولم تهدأ له قدم حتى يحدث أمرا جللا”.

الجوع في مواجهة التخمة!!

في الوقت الذي كان يتمتع فيه جنود الملكة في قصر فرساي بكل أنواع الطعام لدرجة التخمة، ويطأون بأحذيتهم على الفاكهة، ويريقون النبيذ على الأرض في ساحة القصر، كان شعب فرنسا يتضور جوعا، لذلك تجمعت النساء في مظاهرة ضمت عشرات الآلاف، واتجهت المظاهرة إلى مبني بلدية باريس بهدف إحراقها، وهجمت النساء على رجال الحرس الذين فوجئوا بالموقف، فلم يصمدوا وفروا بعد اعلان النساء قرارهن بإحراق كل الرجال داخل مبنى البلدية.

هكذا أشعل الجوع الحريق، فتزايدت مظاهرة النساء قوة، وقررن الاتجاه إلى قصر فرساي؛ “فالشعب شقي تعس، وعلة شقائه كامنة في قصر فرساي”.

نريد الخبز يا مولاي!

قادت بائعة زهور فقيرة مظاهرة النساء، وكان منظرهن -كما يقول دوماس- مثيرا للإشفاق، وعندما بلغن قصر فرساي، تقدمت بائعة الزهور الشابة لتقول للملك كلمتين فقط هما: الخبز يا مولاي؛ ثم سقطت على الأرض مغشيا عليها!

لكن الملكة قررت أن ترد بأسلوبها الخاص، فأمرت جنودها بإطلاق الرصاص على النساء، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى، ولكن غرور القوة انهار أمام ضعف النساء ودمائهن، فهرب الجنود المترفون، لتقتحم النساء جناح الملك والملكة في القصر الذي طالما شهد كل ألوان الترف والبذخ والرفاهية، بينما يئن الشعب من الجوع.

وأجج انتصار النساء الثورة في المدن الفرنسية جميعها والريف بعد أن انفجر غضب الجائعين ضد المفسدين، وهكذا تحولت الثورة الفرنسية إلى ثورة جياع انتقموا من الملكية والارستقراطية والاستبداد والجنود.

تلك هي الحقيقة كما يصورها الأدب الفرنسي، فالنساء الجائعات أشعلن الثورة بعد أن تراجع المثقفون، واعتبروا أنهم حققوا النصر بتدمير سجن الباستيل، وقبول الملك الدستور، وكان يمكن أن يتغير مسار الأحداث لو تخلت الملكة عن غرور القوة، ووفرت الخبز للفرنسيات الجائعات!

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان