أين العرب من حرب ترامب ضد جنوب إفريقيا؟!

وقع الرئيس الأمريكي ترامب قرارًا يقضي بوقف جميع المساعدات الأمريكية لدولة جنوب إفريقيا، بزعم انتهاكها حقوق الإنسان، وارتكابها “التمييز العنصري ضد الأفريكانيين من السكان البيض ذوي الأصول الغربية، وتقويض السياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
لم يكن القرار مفاجئا، فقد أصبحت جنوب إفريقيا في مرمي النيران الأمريكية منذ تحملها ملف “اتهام إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية” ضد الفلسطينيين بغزة، أمام محكمة العدل الدولية 2024 في عهد الرئيس السابق بايدن، ومع وصول ترامب إلى السلطة أخذت الحرب منحى آخر شديد الخطورة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرمضان في القاهرة القديمة!
حصار إسرائيلي للاقتصاد الفلسطيني منذ 31 عاما
لماذا انقلب نتنياهو على “الهدنة” مع حماس؟
لا تبدي صاحبة أكبر اقتصاد بالقارة السوداء بالًا للمعونة الأمريكية، التي اعتمدها بايدن قبل رحيله، بنحو 440 مليون دولار، وهي مساعدات طبية لعلاج المرضى بنقص المناعة المكتسب (الإيدز)، الذي يخشى الغربيون انتشاره بين مواطنيهم ممن يزورون إفريقيا ثم انتقاله إلى ذوييهم. ولا تهتم بخروجها من دائرة الدول الحاصلة على تفضيلات جمركية لتجارتها مع واشنطن، وقد عبر عن ذلك وزير البترول والثروة المعدنية مانتاشي بقوله: “إذا حجب ترامب التخفيضات الجمركية، فسنحجب عنه المعادن الثمينة، التي نصدرها له، فلسنا متسوّلين”!
ضلال عنصري
يبدو ساسة جنوب إفريقيا أكثر انزعاجا من حجم التضليل الذي يمارسه ترامب وأعوانه ضد بلادهم، بعد أن ظلت لعقود حليفا قويا لواشنطن، حينما كانت الأقلية البيضاء (الإفريكانيون)، تدير نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد). أدار النظام العنصري الدولة باتجاه معاكس لرغبة الشعوب في التخلص من الاستعمار. فقد ساعد نظام تلك الأقلية الغرب على وأد الحركات الثورية وساند العدوان الإسرائيلي المتكرر على الدول العربية، وسهل وجودها بدول القارة، ومدها بالسلاح والتكنولوجيا العسكرية والنووية إلى أن فجرت أول قنبلة نووية إسرائيلية بالمحيط الهندي في ستينيات القرن الماضي.
لم تغير جنوب إفريقيا سياساتها مع إسرائيل والغرب، بعد سقوط النظام على يد نيلسون مانديلا في 10 مايو/أيار 1994، رغم التقارب الشديد بين الزعيم الوطني والدول العربية وإيمانه بدور مصر والعرب في إنهاء الحكم العنصري، ودعمه الحقوق العربية المشروعة في إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.
انتهج الزعيم الراحل سياسة التغيير السلمي عبر وسائل ديمقراطية، والتسامح مع البيض، والتوازن في العلاقات الدولية، وحرية السوق، وهو ما دفع واشنطن إلى منحه أفضيلة في صفقات التبادل السلعي والجمارك، لتشجيع النظام على الاستقرار والتوافق مع الرأسمالية الغربية، التي ترعاها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
انتقلت السلطة السياسية على مضض من يد الأفريكانيين ذوي الأصول الألمانية والفرنسية والهولندية والبريطانية إلى الأغلبية السوداء، لكن الثروة ظلت بأيديهم. يديرون المصانع والمتاجر والمناجم لحسابهم ضمن تحالف نخبة أصابها الفساد السياسي، من الملونين وأقلية مستفيدة من الإرث الاستعماري، تلقى معارضة شعبية واسعة.
أدت هذه المعادلة إلى بقاء الأغلبية الكاسحة في دائرة شديدة الفقر، رأيناهم بأعيننا، يقيمون في ضواحي مزدحمة بالأقاليم وبـ”مدن الصفيح” على جوانب الطرق خاصة في جوهانسبرغ العاصمة الاقتصادية للدولة، بينما يعيش البيض في قصور وفلل، يتحركون بسيارات فارهة ويتسوقون بمتاجر فاخرة، ويمرحون بملاهٍ أشبه بمراكز الترفيه في مدينة لاس فيغاس الأمريكية، أقيمت داخل تجمعات خاصة مسيّجة بالأسلاك الشائكة المتصلة بالكهرباء، وشبكات المراقبة لمنع دخول الفقراء والسود بدون المرور على حواجز أمنية مدججة بالسلاح. تسمح تلك المناطق بدخول الغرباء الأثرياء والسائحين، مع حراسات خاصة.
رواية “الضحية البيضاء”
في مجتمع شديد الطبقية، رصدنا عام 2010، عنصرية مفرطة، تظهر عند وقوع حوادث سرقة وعنف. إذا ما ارتكب أحد البيض الفقراء جريمة تصبح حادثا فرديا، وتتسابق الهيئات الخيرية لدعمه بالمال وفرص العمل، التي تحميه من الوقوع في براثن الفقر، حتى يظل مميزا منعزلا عن الأغلبية السوداء.
يحدث كثيرا أن يسطو فقراء سود على ذويهم أو السائحين طلبا للمال أو الطعام، فلا يهتم أحد لكثرة الفقراء والمشردين، ولكن عندما يقع الحادث ضد رجل أبيض، تستدعي الأقلية “رواية الضحية البيضاء”.
يحدد عالم الاجتماع بجامعة وايت وانزسواند بجنوب إفريقيا نيكي فالكوف “رواية الضحية البيضاء” بأنها “ميراث استعماري بغيض للرجل الأبيض”، اختلقه يان فان ريبك مدير شركة الهند الشرقية الهولندية، عندما أقام سياجا من شجر اللوز المر، حول معسكره عند وصوله إلى جنوب إفريقيا عام 1664، مستهدفا إبعاد السكان الأصليين أصحاب الأرض عن مقره، حيث ينظر إليهم على أنهم رمز العنف والوحشية وينبغي إبعادهم عن مسكنه.
يقول فالكوف إن جنون الفصل العنصري المبكر للرجل الأبيض، القادر اقتصاديا على تحصين مزارعه ومجتمعه المغلق، يفترض أن وجود الضحايا الرئيسيين خارج أسوار المدن التي يقيمها؛ وراء الذعر من جرائم القتل التي تقع أحيانا بالمزارع، ولا يجري التعليق عليها إلا إذا وقعت بالرجل الأبيض، حيث ظلت وسيلة فعالة للاستنفار في عصر الفصل العنصري، ولا تزال مستخدمة بشكل مقلق تجعل من تفوق العنصر الأبيض ضحية غير عادية، معرضة لمحارق أو “الإبادة الجماعية البيضاء”.
يشير فالكون إلى توظيف ترامب لهذه الظاهرة، بدافع من إيلون ماسك -وهو أغنى رجل أبيض وأغنى رجل في العالم- المولود بجنوب إفريقيا ومستشاره الخاص للانضباط الحكومي، الذي يروج بجنون لفكرة “الإبادة الجماعية البيضاء”، بتوظيفه لفيديو نشره مواطن جنوب إفريقي يساري على منصته إكس، يندد فيه بهيمنة البيض على مقدرات الدولة. استخدم ماسك الحديث المتطرف الرافض للبيض للادعاء بأن “البيض يتعرضون لمحارق”.
متلازمة الهولوكوست والإبادة
أصبحت “رواية الضحية” متلازمة الرجل الأبيض الذي يعد ترامب نموذجه الحديث، مع صبغة وحشية مروعة تتماهى مع رواية “الهولوكست”، وفي الوقت ذاته، تنكر “الأبارتهايد” بجنوب إفريقيا، والإبادة الجماعية الأشد عنفا المستمرة بغزة والضفة، وحق الضحايا في استعادة أرضهم المحتلة من القوى الاستعمارية.
بغض النظر عن الدافع الشخصي وراء تشهير ماسك بحكومة جنوب إفريقيا، لعدم موافقتها لشركته “ستار لينك” على إنشاء شركة اتصالات، بدون دفع 30٪ من قيمة المشروع لصالح شركات مملوكة للسود وفقا للقانون، وارتباطه المريب بالمتطرفين البيض، فإن دعمه لسياسات ترامب اليمينية المتطرفة، يغازل أفكاره الشعبوية لجعل “أمريكا عظيمة” وإمبراطورية تمارس استعلاء الرجل الأبيض الغربي على العالم.
يدفع هذا الاستعلاء ترامب إلى السير بمشروعه الوحشي، ومنع جنوب إفريقيا من قيادة مجموعة البريكس التي يرى وجودها خطرا يهدد الدولار، ومواجهة تقاربها مع روسيا والصين الذي يراه أكثر خطورة على مستقبل أمريكا، وتحميلها مسؤولية محاكمة عادلة لمرتكبي “هولوكوست غزة” من الصهاينة الإسرائيليين، التي يراها تهديدا لرواية “الضحية البيضاء”، ولمشروعه بمحو فلسطين وشعبها، وداعمة لسياسة يمقتها، ترد المظالم إلى أهلها بالقانون والعدالة بدون تمييز.
تجاهل ترامب أن الأفريكان البيض الذين يمثلون 9٪ من السكان طردوا ملايين السود من أرضهم بالقوة خلال 3 قرون، وما زالوا يملكون 75٪ من الأراضي، بينما 81٪ من المواطنين الأفارقة، يزرعون 4٪ فقط، والملونين الهنود وغيرهم 11٪، وهو ما استدعى تدخل الرئيس رامافوزا بتعديل قانوني لنظام ملكية قائم منذ سنوات، عبر شراء الحكومة للأراضي بالتراضي لصالح الفقراء، مقابل تعويضات عادلة، تنمي الزراعة والاستقرار الاجتماعي.
يملك ترامب مصادر الثروة والقوة لفرض روايته العنصرية المزيفة، فهل نتحرك نحن العرب بقوة لفرض رواية جنوب إفريقيا بالمحافل الدولية، باعتبارها قضيتنا الخاصة، وورقة داعمة لنا بملف محاربة التهجير العنصري الذي يفرضه ترامب قسرا على غزة، قبل أن ننقرض مثل الهنود الحمر، أمام توحش الرجل الاستعماري الأبيض؟