النقابات المصرية.. من المهنة إلى المجتمع

تبدو سخونة المنافسة الانتخابية في انتخابات مجلس نقابة الصحفيين المصريين لافتة وكاشفة في آن واحد.
فالنقابة العريقة بما لها من تأثير في الضمير والوجدان الجمعي هي إحدى أهم مؤسسات المجتمع المدني المصري.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالبحث عن الأمل في غزة
النفط والغاز في مصر.. تراجع الإنتاج ونمو الاستهلاك
المعارضة التركية وأزمة الاستقواء بالخارج
إلا أن الأمر لا يتوقف عند التأثير الرمزي والوجداني، بل يتجاوز ذلك إلى دور مهم تلعبه نقابة الصحفيين، والنقابات المهنية، في التأثير العام والاشتباك مع قضايا مهمة.
درجة السخونة ومساحة التدخلات الرسمية في انتخابات الصحفيين باتت كاشفة لأدوار جادة تلعبها النقابة، ويبدو أن المطلوب الآن هو العودة إلى الأسقف المنخفضة التي حاصرتها على مدى سنوات، لينحسر دورها ويتوقف عند حدود تقديم بعض الخدمات المعيشية لأعضائها، فلا مهنة ولا حريات!
خلال العام الماضي اشتبكت نقاباتان مهنيتان على الأقل مع قضايا سياسية ومجتمعية مهمة.
بدا الأمر وكأن النقابات صارت هي اللاعب الرئيسي وسط مجال عام مغلق ومساحات حرية لا تتسع للجميع.
بنضال جماعي مهني يمكن للهوامش الضيقة أن تتسع، هذه حقيقة مؤكدة.
وبإدراك وفهم لطبيعة النقابات المهنية وتكوينها وتأثيرها يمكن أن تكون هذه التنظيمات المهنية هي رأس الحربة في التعامل مع قضايا مجتمعية مهمة، تعود في النهاية بالمصلحة على المجتمع ككل.
هناك مؤشرات خلال العام الماضي توحي بدور مجتمعي مهم باتت تلعبه النقابات المهنية في مصر.
“الصحفيين” وحرية التعبير
أهم معركة خاضتها نقابة الصحفيين طوال العامين الماضيين ومع مجلس النقيب الحالي خالد البلشي كانت معركة حرية المهنة والإفراج عن المحبوسين على ذمة قضايا الرأي والنشر.
قضايا الحرية هي الأصعب في مصر منذ نحو عشر سنوات.
بلا تردد اقتحمت النقابة الصحفيين المصرية الملف المغلق، ضغطت وتحاورت وتفاوضت على هوامش أوسع للصحافة وحرية كاملة للمحبوسين.
نجحت في تقليص عدد المحبوسين من 30 زميلًا صحفيًا إلى 19 فقط، قبل أن يرتفع العدد مرة أخرى في نهاية عام 2024 إلى 24 صحفيًا سجينًا، تجاوز بعضهم مدد الحبس الاحتياطي المحددة قانونًا بعامين كحد أقصى.
بإدارك للدور المجتمعي الذي تلعبه النقابة لم يتوقف الأمر على حرية الصحافة وتحرير المحبوسين بل تجاوز ذلك إلى اشتباك أوسع مع قضايا مجتمعية ترتبط بشكل مباشر بالتأثير على الصحافة وحريتها.
خاضت النقابة معركة رفض قانون الإجراءات الجنائية الجديد بدرجة مميزة من الجرأة والوضوح، وكانت مع آخرين أحد أسباب توقف القانون وإعادة مراجعته!
احتجت نقابة الصحفيين ورفضت النصوص التي لا تضمن حدًا مناسبًا من ضمانات الدفاع عن المتهمين، ونسقت بشكل جيد مع النقابة الجارة في شارع عبد الخالق ثروت.. نقابة المحامين!
هذا الفهم لتأثير النقابات واشتباكها مع قضايا مجتمعية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمساحات الحرية يقلق جهات رسمية تخشى من أن تتسع الهوامش المتاحة.
في كل حصار تتعرض له الحريات العامة إضرار مباشر بالصحافة وخصم مؤكد من قدرتها على الفعل والعمل.
هكذا تعاملت النقابة المصرية مع الشأن العام.
خاضت النقابة العريقة قضايا مجتمعية مهمة ترتبط بالحريات العامة قبل أن تبدأ نقابة أخرى في الاشتباك مع قضية مجتمعية ليست أقل خطورة.
“الأطباء” والمسؤولية الطبية
بطبيعتها وتكوينها لا يمكن أن يقتصر تأثير نقابة الأطباء على أعضائها فقط.
فقضايا تحسين الخدمات الصحية، وحقوق المرضى لا سيما الفقراء منهم تأتي في صلب القضايا المجتمعية التي توليها النقابة اهتمامًا خاصًا.
بالإدراك الذي سرى مؤخرًا في النقابات المهنية رأت النقابة المهمة أن جزءًا من دورها هو أن تدافع عن نظام صحي أكثر كفاءة وإنسانية.
خاضت نقابة الأطباء معركة مهنية ومجتمعية مهمة ضد قانون المسؤولية الطبية الذي أثار عاصفة من الجدل المجتمعي خلال الشهرين الماضيين.
دافعت النقابة عن أعضائها وعن رفض الحبس الاحتياطي في قضايا الخطأ الطبي وهي تدرك في خلفيتها أنه لا حساب عادل دون نظام صحي محترم يقلل من الأخطاء ويساعد المرضى.
في الدفاع عن أعضائها مطالبة واضحة بتحسين النظام الصحي بأكمله لصالح عموم المصريين.
الخلاف بين الحكومة والنقابة وصل لحد الدعوة لجمعية عمومية للأطباء قبل أن يجمد مجلس النقابة الدعوة في أعقاب وعود حكومية بتعديلات على القانون.
في المعارك المجتمعية للنقابات المهنية مساحات تتفتح نحو مجتمع حر ومتوازن بعيدًا عن التسلط والسيطرة الرسمية.
النقابات المهنية والتحول الديمقراطي
في فترات الركود السياسي تبدو النقابات المهنية هي الأكثر قدرة على التفاعل مع الأوضاع العامة، والأكثر قدرة على التحرك والعمل في الملفات المهمة.
24 نقابة مهنية في مصر تضم شرائح من المثقفين والمهنيين الذين يمتلكون الوعي والقدرة على التأثير.
بعد القيود التي فرضت على المجال العام باتت النقابات هي الأكثر تعبيرًا عن فكرة التعددية والأكثر تأثيرًا في الاشتباك مع قضايا لا تقبل التأجيل.
ضربت نقابتا الصحفيين والأطباء مثلًا واضحًا في إمكانية أن تتحول النقابات إلى منابر لخدمة المجتمع وأبنائه عبر حوار وتفاوض جاد مع السلطة والحكومة.
في صفحات التاريخ لعبت بعض النقابات المهنية أدوارًا محورية في محطات مهمة من تاريخ مصر السياسي، عبرت عنها نقابات الصحفيين والمحامين والأطباء وغيرها.
كانت نقابة الصحفيين في طليعة المدافعين عن حرية التعبير. أما نقابة المحامين، فقد كانت دائمًا في صلب القضايا الحقوقية والدفاع عن الحريات العامة وسيادة القانون. وبرزت نقابة الأطباء خلال الأزمات الصحية كجهة ضغط من أجل تحسين أوضاع العاملين في القطاع الصحي وتوفير خدمات طبية أفضل للمواطنين.
في كل هذه التفاصيل ما يوحي بإمكانية أن تكون النقابات هي ساحة التفاعل نحو انتقال ديمقراطي مطلوب في مصر.
والمطلوب أن تستمر انتخابات هذه النقابات حرة وبعيدة عن التدخلات الرسمية، وأن تواصل مجالسها المختلفة الاشتباك مع قضايا لا تكتفي بالمهني بل تصل إلى المجتمعي.
وفي هذا التواصل بداية طيبة على درب مجال عام حر، وانتقال ديمقراطي حقيقي تستحقه مصر حتى لو كان بطيئًا ومتدرجًا.